ترامب يدخل البيت الأبيض ولعنة غزة تطارده

مهما كانت كاريزما الرئيس الأميركي الجديد فالواقع له أحكامه التي يجب مراعاتها إذا أرادت واشنطن أن توفر جانبا كبيرا من الهدوء وتعيد ترتيب التعاون مع حلفائها في منطقة مليئة بالصراعات.
الثلاثاء 2025/01/21
المقاومة بالسلاح لم تعد مجدية

لعب الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب دورا مهما في إنجاز صفقة الأسرى والسعي نحو وقف الحرب في قطاع غزة، قبل ساعات قليلة من أن تطأ قدماه البيت الأبيض، ويرجع إليه الضغط أو إقناع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بالموافقة على طبخة سياسية ظهرت معالمها منذ مايو الماضي، من خلال مبادرة الرئيس جو بايدن التي قدمها في البداية باعتبارها خطة إسرائيلية تحظى بالموافقة الرسمية، ثم تعثرت على وقع مماطلات من نتنياهو نفسه.

دخل ترامب البيت الأبيض وبدأ حكمه للولايات المتحدة رسميا، الاثنين، ولا يزال اتفاق غزة يراوح مكانه، فالمطبات التي واجهها في الساعات الأولى لتطبيقه، الأحد، تشي بأن هناك مطبات أخرى تنتظره قبل نهاية المرحلة الأولى (42 يوما)، وتقوم حركة حماس خلالها بتسليم 33 من المحتجزين لديها، أحياء وأمواتا، مقابل انسحابات متدرجة من مناطق مختلفة تقوم بها القوات الإسرائيلية.

ومن غير  المتوقع أن تسير هذه المرحلة بسهولة، بما يؤدي إلى زيادة المصاعب في المرحلتين الثانية والثالثة، وتضمان مناقشة تفاصيل قضايا أكثر حيوية، أبرزها اليوم التالي لوقف الحرب، ومن يدير قطاع غزة؟

◄ مع الاختلال الكبير في توازنات القوى لم تعد المقاومة بالأسلحة أداة مناسبة، ما يفرض العودة إلى نهج الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات (أبوعمار)، أي منح أولوية للمقاومة السياسية

وصلت تحذيرات ترامب إلى من يعنيهم الأمر في المنطقة، ومعها تهديد واضح بجحيم سوف ينتظرها إذا لم تتوقف الحرب، وبالطبع لا يستهدف هذا الجحيم إسرائيل، والمقصود به الشعب الفلسطيني، والذي عرف الجحيم فعلا على مدار 15 شهرا، وتكبد خسائر فادحة، ولأنه لا يضير الشاة سلخها بعد ذبحها، كان من الأولى بالرئيس الأميركي أن يتوعد نتنياهو ومعاقبته على انفلاته، والذي ألقى كلمة عشية تنفيذ الصفقة حملت مضمونا يقول إن الحرب يمكن استئنافها في أيّ لحظة.

عمل الطاقم المعاون للرئيس ترامب لشؤون الشرق الأوسط على تهيئة الأجواء لحكمه من دون ضجيج أو جحيم قطاع غزة، ونجح في هذه المسألة بدرجة كبيرة، لأن الصفقة دخلت حيز التنفيذ في يوم موعدها، مع تأخير بضعة ساعات، لكن سوف تظل لعنة هذه المنطقة تطارد ترامب، فالملفات المنتظر التباحث عنها ممتدة، وفيها قضايا حساسة للطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، وما لم تكن إرادة الرئيس الأميركي قوية وتحمل وصفة سحرية للتهدئة الدائمة، لن يكون لاتفاق وقف إطلاق النار حظ كبير من الصمود والاستمرار، فالتصورات المتشددة التي يحملها نتنياهو يمكن أن تعرقله.

وهذا يعني أن التوقيع على الصفقة كان هدفا مرحليا، وليس نهائيا، وأن المسألة تحتاج إلى جهود واسعة من فريق الرئيس ترامب، فالحرب التي اندلعت وتركت آثارا مدمرة في المنطقة لا بد أن تعقبها خطة لعلاج أسبابها وتشوهاتها.

ومهما كانت كاريزما الرئيس الأميركي الجديد، فالواقع له أحكامه، التي يجب مراعاتها إذا أرادت واشنطن أن توفر جانبا كبيرا من الهدوء، وتعيد ترتيب التعاون مع حلفائها في منطقة مليئة بالصراعات، لكن يظل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي أكثرها تعقيدا، لأنه قضية وجود وليس حدودا.

◄ الطاقم المعاون للرئيس ترامب لشؤون الشرق الأوسط عمل على تهيئة الأجواء لحكمه من دون ضجيج أو جحيم قطاع غزة

مضت صفقة الأسرى على سبيل المسكنات الأمنية والسياسية التي أرادها ترامب للإيحاء بأن الصرامة عنوان رئيسي لتعامله مع قضايا الشرق الأوسط، وليس لأنها حل نهائي يحتاج إلى أفكار خلّاقة، توفر لإسرائيل الأمن الذي تبحث عنه، وتضمن حدا جيدا من حقوق الشعب الفلسطيني، ربما يكون الشق الأول واضحا بما يكفي، لكن الغموض الذي يكتنف الشق الثاني يؤكد أن ترامب قد يواصل طريق سلفه بايدن في التسويف، أو أن يقدم حلا مناسبا، خطته المعروفة بـ”صفقة القرن” أو الاتفاقيات الإبراهيمية لن يكتب لها النجاح ما لم تتضمن تسوية سياسية معقولة للفلسطينيين.

ترهن دولة مثل السعودية تطبيعها مع إسرائيل بإيجاد حل للقضية الفلسطينية، وهي المهمة المحورية التي تواجه إدارة ترامب، إذا صمد اتفاق غزة وتم تطبيق بنوده حتى مرحلته الثالثة والأخيرة، فالمكونات الصارخة التي حوتها تصريحات نتنياهو وعدد من الوزراء في حكومته تعزز الرؤية الإقصائية للفلسطينيين، ولا تريد منحهم حدا أدنى لتشكيل دولة أو شبه دولة على جزء من أراضيهم.

كما أن حماس تتعامل مع الصفقة كانتصار سياسي لها، ما يعني عدم تسليمها بالخروج من معادلة الحكم في غزة، وبالتالي الدخول في مواجهة جديدة لتقويض سلطتها تماما.

حيال هذه النوعية من المشكلات، لن يجد ترامب فرصة للحفاظ على الهدوء الذي ينشده في المنطقة، والتفرغ لمعالجة قضايا داخلية حيوية ومزعجة في الفترة الأولى لإدارته، فالتحذيرات والتهديدات يمكن عدم الاستماع لها جيدا، مع تطورات متلاحقة تفرض معالمها العسكرية، فحكومة إسرائيل منكسرة سياسيا، لأن عملية الإفراج عن الأسرى تمت عن طريق صفقة، وتنتظر أياما صعبة إذا خرج منها بعض وزراء اليمين، وتعود قضايا الفساد المتهم فيها نتنياهو، وما ينجم عنها من مزايدات سياسية.

◄ تحذيرات ترامب وصلت إلى من يعنيهم الأمر في المنطقة ومعها تهديد واضح بجحيم سوف ينتظرها إذا لم تتوقف الحرب وبالطبع لا يستهدف هذا الجحيم إسرائيل، والمقصود به الشعب الفلسطيني

ناهيك عن تداعيات تشبث حماس بالمشاركة في إدارة غزة، والتي يمكن أن تعيق عملية إعادة الإعمار في القطاع، وتشير إلى أن القوى الفلسطينية لم تبرح خلافاتها، ومصممة على استئناف تراشقاتها السابقة، كأن حرب غزة وروافدها المدمرة لا يعنيان شيئا في الحسابات السياسية، وهو ما تراهن عليه إسرائيل، وتراه عنصرا مهما لتعطيل حسم القضية الفلسطينية، ما يعفيها من التزامات قد يفرضها ترامب على قيادتها.

إذا أراد الفلسطينيون الاستفادة من صرامة ترامب عليهم أن يحلوا مشاكلهم البينية، وأن يمتلكوا خطابا واضحا، وأن يتعاملوا مع قضيتهم برؤية وطنية وليست حركية، فالخسارة الفادحة نتيجة حرب غزة يمكن أن تصبح ضئيلة إذا لم تتعلم القوى الفلسطينية فن إدارة العلاقة مع إسرائيل، وتجربة المقاومة لم تثبت فعالية يجني منها الفلسطينيون مكاسب كبيرة، ربما حركت قضيتهم ووضعتها على السطح إلا أنها أطلقت يد إسرائيل في التغول داخل الأراضي المحتلة، والتعامل بالمزيد من القسوة مع المواطنين، ووصلت إلى قناعة بأن الإبادة الجماعية حل وحيد، وهو ما لم تستطع تطبيقه حتى الآن، لكن يمكن أن تعود إليه في أيّ لحظة، وهو الدرس الأشد صعوبة الذي من الضروري أن يستوعبه الفلسطينيون، وأن يستفيدوا من مضامينه.

مع الاختلال الكبير في توازنات القوى لم تعد المقاومة بالأسلحة أداة مناسبة، ما يفرض العودة إلى نهج الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات (أبوعمار)، أي منح أولوية للمقاومة السياسية، وهي طريقة تتواءم مع قناعات ترامب، ويمكن أن تجعله يفكر في تسوية لأهم وأكبر وأقدم صراع في المنطقة، ويستطيع التخلص من لعنة غزة العسكرية، والتعامل معها كلعنة سياسية قابلة للتفاوض، والفرق بينهما كبير، لأن القوة الباطشة التي يمكن أن تستخدمها إسرائيل في المرة القادمة سوف تتوافر لها قوة أميركية مضاعفة، لا تقارن بما وفّرته إدارة جو بايدن لنتنياهو.

8