التقارب بين سوريا ولبنان ضرورة إقليمية

انكفاء المشروع الإيراني في المنطقة بفعل نتائج 7 أكتوبر العكسية ورحيل النظام السوري حدثان يشكلان دافعًا قويًا لإعادة بناء نسق جديد في مسار العلاقات بين دمشق وبيروت.
الجمعة 2025/01/17
تقارب متزن ومستقل بين سوريا ولبنان

يفتح التغيير الكبير في سوريا بعد سقوط نظام الأسد صفحة جديدة في تاريخ البلد بعد عقود طويلة من سيطرة الدولة المافيوية على البلاد، والتي لم تكتف فقط بنهب المال العام وإذلال الشعب السوري، بل بتوظيف سوريا في خدمة الأجندة الإيرانية المعادية لدول المنطقة. ولعل الضرر الأكبر الذي سببه نظام آل الأسد كان على لبنان بالنظر إلى عاملي الجغرافيا والتاريخ اللذين انعكسا على طبيعة العلاقات ما بين البلدين منذ اتفاقية سايكس بيكو إلى أن سقطت سوريا في يد البعثيين وأصبحت العلاقة محكومة بنزعة تسلطية انتقلت بجينات الوراثة من الأسد الأب إلى الأسد الابن.

انكفاء المشروع الإيراني في المنطقة بفعل نتائج 7 أكتوبر العكسية ورحيل النظام السوري حدثان يشكلان دافعًا قويًا لإعادة بناء نسق جديد في مسار العلاقات بين دمشق وبيروت. ومع ذلك، فإنه من المبكّر الحديث عن قطف ثمار هذه العلاقة الجديدة رغم كل ما حمله لقاء رئيس حكومة تصريف الأعمال اللبنانية بقائد الإدارة السورية الجديدة في دمشق من إشارات إيجابية متبادلة. أمامنا تجربة سورية جديدة لا يتجاوز عمرها شهر واحد لا بد أنها منشغلة بتثبيت سلطتها أكثر من أي شيء آخر، ومن الصعب الحكم على أدائها رغم كل النوايا الحسنة التي تحاول أن تسوّقها للخارج. ومن المفترض أنها ستدير مرحلة انتقالية تمتد لأربع سنوات وغالبًا ما تكون صلاحيات الحكومة الانتقالية محدودة بهدف إدارة شؤون الدولة مؤقتًا حتى انتقال السلطة وكتابة دستور جديد. ولذلك، فإن تأجيل مسألة ترسيم الحدود مع لبنان قد يكون واردًا من باب ضمان شرعية القرارات تحت الإطار القانوني الذي يخوله الدستور.

◄ المتغيرات الجديدة في سوريا ولبنان من شأنها أن تساهم في إعادة تشكيل المشهد السياسي الإقليمي على نحو مغاير وبعيد عن التوترات والحروب

أمامنا أيضًا عهد جديد في لبنان يحتاج إلى تفكيك الألغام التي زرعها حزب الله في المشهد السياسي قبل المرور إلى الشق الاقتصادي الذي يستدعي إجراءات طارئة لا بد فيها من علاقات تحكمها البراغماتية والهدوء مع سوريا على اعتبار أنها المنفذ البري الوحيد للبنان والذي يمكّنها من التواجد على مسافة أقرب مع بعدها الإقليمي. لذلك، من الطبيعي أن تأخذ الملفات الداخلية حيز الأولوية ويترك الإرث الثقيل من الملفات المعقدة مع سوريا إلى حينٍ تتضح فيه الرؤية.

قدرة لبنان على استيعاب ومراعاة تأجيل ملف حساس كترسيم الحدود قد تكون ممكنة، لكن الأمر يختلف في مسألة ملف اللاجئين السوريين. يحتضن لبنان أكثر من مليون لاجئ سوري، يشكلون عبئًا هائلًا على بنيته التحتية وخدماته العامة التي بالكاد توفر الحاجات الأساسية للبنانيين. في المقابل، تشكل مسألة الأموال السورية العالقة في النظام المصرفي اللبناني حجر الأساس في المطالب السورية الحالية. سوريا في حاجة إلى عودة رأس المال الوطني لإعادة تدوير عجلة الاقتصاد المنهك بما يمكن على الأقل، كخطوة أولى، من خلق فرص عمل تضمن الإبقاء على الهدوء الذي تحتاجه العملية الانتقالية. والأجدر أن يتعامل البلدان في معالجة هاتين المسألتين بمنطق “الصفقة”، تلافيًا لتصادم قد تستغله أطراف لدق إسفين في العلاقة الجديدة بين دمشق وبيروت.

تقارب متزن ومستقل بين سوريا ولبنان، مبني على المصالح المشتركة واحترام السيادة، من شأنه أن يضع حدًا لأيّ تأثيرات سلبية بإمكان إيران أن توظفها من أجل الحفاظ على ما تبقى من نفوذ حزب الله في لبنان. لذلك، لا بد أن تعمل الأنظمة العربية على دعمه وتعزيزه، هذا إذا أرادت المحافظة على مكتسبات سقوط نظام الأسد بالشكل الذي يمنع محور الشر الإيراني من إعادة تشكيل نفسه.

ومن زاوية أوسع، فإن المتغيرات الجديدة في سوريا ولبنان من شأنها أن تساهم في إعادة تشكيل المشهد السياسي الإقليمي على نحو مغاير وبعيد عن التوترات والحروب التي أشعلتها إيران بالوكالة وجعلت فيها البلدين أشبه بمستودع ذخيرة. لا شك أن انكفاء الدور الإيراني في سوريا ولبنان سينهي الحجة الإسرائيلية التي استخدمت لتبرير رفض المضي قدمًا نحو حل سياسي مع الفلسطينيين تحت ذريعة “محاربة محور الشر”، وهو الأمر الذي يفتح آفاقًا جديدة للقضية الفلسطينية مع تعزيز إمكانية حل الدولتين، الذي طالما كان محور الجهود الدبلوماسية الدولية.

9