الانفتاح العربي على سوريا لتحاشي تجربة العراق

وضع التغيير الحاصل في سوريا بعض الدول العربية في موقف حرج، بين الانفتاح والإحجام عن السلطة الجديدة التي يسيطر عليها رئيس هيئة تحرير الشام أحمد الشرع وباتت أمرا واقعا يستوجب التعاطي معه سياسيا، لكن حسابات الهيئة السابقة تثير الشكوك فيها وهناك جهات تخشى أن يؤدي تطبيع العلاقات معها إلى إضفاء مشروعية على السلطة في دمشق ثم يتبين أن تصوراتها متطرفة والتطمينات التي قدمتها للسوريين وغيرهم قد يتم التراجع عنها.
ويمنح تأخّر بعض الدول العربية في الاعتراف بحكومة هيئة تحرير الشام تركيا فرصة للهيمنة على القرار في دمشق بشكل كبير، ويكرر نموذج العراق منذ نحو عقدين عندما غزته الولايات المتحدة وتركته نهبا لجماعات دينية وميليشيات مسلحة تدين غالبيتها بالولاء لإيران، فقامت الأخيرة بالسيطرة على السلطة في بغداد، وعندما انتبهت بعض الدول العربية لخطورة ذلك وقررت الانفتاح على العراق كانت طهران قد تمكنت منه، ووظفته في خدمة مصالحها وأهدافها الإقليمية.
وربما يكرر عزوف بعض الدول العربية عن تطوير العلاقات مع دمشق ما حدث في بغداد بشكل يختلف في بعض تفاصيله، حيث تقع الأولى في حجر أنقرة كما وقعت الثانية في حوزة طهران، وحيال هذه المقارنة المحيرة بدأ عدد من العواصم العربية خطوات للانفتاح على الإدارة الجديدة بقيادة أحمد الشرع وابتعد آخرون، وترددت فئة ثالثة، ولكل منهم دوافع وأسباب ومعطيات، وحط في دمشق وزراء خارجية ومسؤولو مخابرات وسفراء، كنوع من الدعم أو الاستشراف.
◙ تأخّر بعض الدول العربية في الاعتراف بحكومة هيئة تحرير الشام يمنح تركيا فرصة للهيمنة على القرار في دمشق بشكل كبير
من انفتحوا رأوا أن الشرع سيطر على الحكم ويتلقى دعما تركيّا وغربيّا كبيرين يمكنه من التمترس في السلطة لفترة طويلة، ومن الضروري المصالحة معه وفتح صفحة جديدة، وثمة دول عديدة كانت قد وضعته وهيئته على قائمة الإرهاب وتجري حوارات معه، وترى ضرورة في منحه فرصة للحكم، وسواء أكانت هذه الفرصة اقتناعا بما أدخله الرجل من تحولات وتحسينات في خطابه، أم كرها في نظام الرئيس السابق بشار الأسد، ففي الحالتين وجدت سلطة جديدة تتعامل معها جهات دولية عدة، وخطابها المعلن ينحو تجاه السلام والاستقرار والحفاظ على مصالح دول الجوار، على عكس خطابها المتطرف الذي راج في فترات سابقة.
ومن ابتعدوا كان محركهم القلق من أن تؤدي تصرفات أحمد الشرع الناعمة إلى سلطة يرأسها تيار الإسلام السياسي بعد أن استوعب هذا التيار إخفاقاته في بعض الدول العربية، لأن الحكومة المؤقتة التي تشكلت في دمشق قبل أيام عززت الطابع الإخواني في أشخاصها، بالتالي تجد بعض الدول التي حاربت جماعة الإخوان وأنهت حكمها نفسها أمام حالة عليها أن تختار فيها بين تطبيع العلاقات معها اعترافا بالمستجدات وما تفرضه من مصالح أو الدخول في خصومة سياسية.
وفي هذه الحالة تنفرد أنقرة بالسلطة على دمشق وتتحكم في مفاتيحها الرئيسية، وتحولها إلى أداة لنظام تريد تشييده على مقاس تقديراتها للمنطقة أو رأس حربة لتوسعاتها في المنطقة وتحاول تكرار نموذج العراق مع إيران بطريقة أكثر دهاء، حيث توجد ملامح تنسيق بين أنقرة وكل من الولايات المتحدة وإسرائيل، ولا تمانع في التعاون مع بعض الدول العربية مثل قطر، بينما انفردت إيران بالعراق.
ومن ترددوا حتى الآن، محركهم الأول أن سلطة الشرع تمنح الإخوان فرصة للتفاؤل بعودتهم إلى الحكم في بلدان أخرى، ما يثير انزعاجا كبيرا في المنطقة، حيث أوحت تصرفات قيادات وكوادر تنتمي إلى الإخوان بذلك، وقد وجدت جماعة الإخوان رعاية من هيئة تحرير الشام أو عدم رفض لها، ما يعني أن الإقبال على السلطة الجديدة في دمشق سوف يمنح الإخوان اعترافا ضمنيا وربما صريحا بالجماعة من دول قاومتها وكافحت لقصقصة أجنحتها، وخاضت معارك ضارية للتخلص من أذرعها العسكرية، ما يضعها في ورطة أخلاقية وسياسية وأمنية، تدفعها إلى تغيير حساباتها السابقة.
وداخل فريق المترددين يوجد صوت يعلو سرا يطالب بالانفتاح وتغيير توجهات هيئة تحرير الشام من الداخل، حيث تواجه تحديات كبيرة، تجعلها غير قادرة على استيعاب كل الأطياف في سوريا، ونجاحها أو تعثرها ستكون لهما تداعيات خطيرة على الساحة العربية، فالنجاح يمنح تركيا يدا طولى لأنها المظلة التي يستظل بها الحكام الجدد في دمشق، والفشل ربما يهيّئ أجواء أمام أنقرة لقضم جزء من الأراضي السورية بذريعة مكافحة الجماعات الكردية التي تصنفها تركيا “إرهابية”، ولذلك فالتردد له دوافع تجعل بعض الدول تتمهل على أمل وضوح المشهد لاحقا.
وتبدو كل السيناريوهات مفتوحة في سوريا وأكثرها تشاؤما أن تتمكن تركيا من الاستمرار في احتضان حكامها وتدجين القوى الأخرى المعارضة لها، وهنا لن تصبح أية تدخلات أو مقاربات عربية مجدية لتغيير الأوضاع، وقد يحتاج العرب وقتا طويلا لاستيعاب المخاطر التي ينطوي عليها تعاظم الدور التركي في سوريا برعاية الولايات المتحدة، كما احتاجوا وقتا طويلا لفهم الأهداف الإيرانية في العراق برعاية أو إهمال الولايات المتحدة بعد الغزو، حيث تمكنت طهران من التغول في العراق، وتحاول تركيا القيام به في سوريا مع استفادة من أخطاء طهران التي جعلتها تفقد غالبية أدواتها، وقد تجبر على فقدان العراق لاحقا.
◙ مشكلة الإدارة الجديدة تكمن في حالة التماهي السياسية بين هيئة تحرير الشام وتركيا التي تشبه إلى حد كبير تلك التي سادت بين حكام العراق بعد الغزو وإيران
تأتي الخطورة هذه المرة من وجود ما يشبه تقسيم أدوار بين تركيا وإسرائيل في الأراضي السورية، وهو ما لم يكن موجودا في حالة العراق، ويزداد الوضع الراهن صعوبة، إذ تملك كلتاهما أجندة تتقاطع جوانبها في منع وجود صلات عربية قوية بدمشق إلا في حدود الشروط التي تمكن من الحصول على شرعية إقليمية في هذه المرحلة، والموافقة على ما يليها من ترتيبات تمنح دمشق الحرية في تبني سياسات لا تتعارض مع مصالح كل من أنقرة وتل أبيب.
ويحتاج الأمر إلى ليونة ظاهرة في البداية تفلح في استقطاب اعترافات متنوعة بهيئة تحرير الشام وتغيير الوجه المتطرف الذي عرفت به، وإحلال آخر محله يجعلها مقبولة في المنطقة، بخلاف القيادات التي تولت السلطة في بغداد واحتاجت وقتا ليتم الاعتراف بها عربيا عندما جرى التأكد من أن تهميشها صب في مصلحة إيران.
وتكمن مشكلة الإدارة الجديدة في حالة التماهي السياسية بين هيئة تحرير الشام وتركيا، التي تشبه إلى حد كبير تلك التي سادت بين حكام العراق بعد الغزو وإيران، واحتاج العرب سنوات كي يخترقوا بعض مفاصلها، بينما قد يحتاجون سنوات أطول لتفكيكها في سوريا، لأن القواعد التي تقوم عليها ممتدة ويسعى كل طرف لتعميقها ومحاولة منع تفكيكها من خلال إيجاد مصالح مشتركة، على عكس إيران التي فرضت هيمنتها الكبيرة على السلطة في العراق وحرمتها من أي مساحة للاستقلال في صناعة القرار وظلت تسيطر عليها دينيا وأمنيا وسياسيا بلا خجل أو مداراة، بينما تسعى تركيا لمنح هيئة تحرير الشام مساحة للحركة، أو هكذا تريد أن توحي للدول العربية.
تحتاج السلطة الجديدة في دمشق إلى تقديم تطمينات واضحة للداخل والخارج، وحتى الآن تعمدت تبني سياسة بها قدر عال من الغموض لأنها تعلم خطورة الكشف عن توجهاتها الحقيقية، وما ستحمله من ردود أفعال مسكونة بالهواجس، في وقت ملأت فيه الشكوك عقول بعض الدول العربية بما فيها تلك التي انفتحت على السلطة الجديدة، حيث وجدت أن خيار العزوف قد يكون أكثر كلفة، فتركيا التي تسعى لترويض الشرع وهيئته بما يتماشى مع أهدافها لن تسمح لأحد بتفكيك المعادلة التي تريد تشييدها في سوريا بالطريقة التي تمكنها من تحقيق أهدافها الإقليمية.