الحقيقة الضائعة بين "أحلام أبوالهنا" وواقع حال الجولاني

سيناريو محبوك: رجل دموي فر إلى روسيا لينعم بما سرق من أموال ورجل دموي آخر يجلس على كرسي السلطة.
السبت 2024/12/28
الغاية تبرر الوسيلة

في تسعينات القرن الماضي طلعت علينا الكوميديا السورية بمسلسل رمضاني ساخر تحت مسمى "أحلام أبو الهنا" والذي يصنّف ضمن خانة “كوميديا الموقف”، قام دريد لحام وقتئذ بلعب دور بطولته، حيث يتعرّض لمواقف مخجلة تتسبب له في مشاكل جمّة، وضمن إحدى الحلقات، يعيش البطل وضعا بيروقراطيا سيّئا أثناء قضاء حوائجه من داخل إحدى الإدارات التي جلدته بمختلف أصناف التسويف والتماطل “وسير واجي” بلغتنا المغربية، إلى مستوى ضاع فيه البطل في أتون من الانتظارية القاتلة، حيث من شدّة الإرهاق ستأخذه سنة من النوم، سيحلم، أنه أصبح وزيرا فأخذ ينتقم من الجميع، نكاية فيما تعرّض له من تماطل وتسويف، لكن حين سيبلغ أوج الحلم سينادي عليه مأمور الإدارة بصوت مبحوح مشروخ: تفضّل ما تطلبه ليس هنا.

حلم “أبو الهنا” الفنان دريد لحام الذي جسّد قمة تماهي وانشداد الفنان المثقف مع السلطة الدموية للأسد وتسويغ ما اقترفه هذا الأخير من قتل ممنهج ومجازر تحوّلت من خلالها سوريا إلى مسلخ كبير محوّط بسجن رحب وسع كل بلاد الشام.

دريد لحام خرج علينا من خلال حسابه على إنستغرام قائلا “عندما قلت للهارب بشار الأسد أحبّك وأعشقك، كنت أقصد في داخلي أكرهك وأبغضك” مما أثار عليه موجة من السخرية والتهكم، لأن موقفه هذا يجعله فنانا مدافعا عن المواقع ومُحابيا لأصحابها، أي بلغتنا المغربية “الله ينصر من أصبح”.

دريد لحام الذي سارع إلى تغيير البندقية من كتف إلى كتف آخر، وكأننا به يبرّر موقفه المخزي المتحوّل… هكذا… “قالو له بالأمس رأيناك تمدح الرئيس وتبجّله واليوم رأيناك تمدح الرئيس الجديد الذي انقلب عليه، فما الذي غيّر موقفك؟ أجاب مستهجنا مستغربا من السؤال: أنا لم أتغيّر، الرئيس هو الذي تغيّر.”

جولاني الأمس إرهابي وجولاني اليوم هو: أحمد الشرع "مسيح" الغرب ومهدي منتظر الشرق

عجبا الفنان لم يتغيّر بل لا يزال عاضا بالنواجد على مواقفه ولم يتغير، الذي تغيّر هو سياق المرحلة. لأن هذا الفنان ومن على شاكلته وطينته من أشباه الفنانين والمثقفين والنخب الذين يسبحون في فلك السلطة الحاكمة في زمن قوتها وصلفها وعنجهيتها بسبب ما تسبغه عليهم من مزايا ونعم وعطايا، يرفضون تقديم نقد ذاتي ومراجعات فكرية لمواقفهم حين يحصحص حقّ التغيير.

نعم، "أحلام أبو الهنا" وكأني بها تشبه أحلام هذا الفتى الدموي الذي جاء هو أيضا إلى السلطة يسعى، كان يسمى حركيا بالجولاني، بعدما عاث فتكا وهتكا في أبرياء العراق والشام، بعد تشبّعه بأفكار التكفيري “أبو القعقاع” وتحت مظلة أمراء الدم من أبي مصعب الزرقاوي وحتى أبي بكر البغدادي.

الرجل (الجولاني) بعد مسار حافل بالدموية، سيجد نفسه مسخّرا لأداء دور محوري في سوريا ومنطقة الشرق الأوسط، بعدما سخّرته أياد غير مرئية من وراء الستار وهيأت له وضعا مريحا هذه المرة على ظهر سيارة “تيوتا أورس التركية” وليس ظهر دبابة أميركية كما حصل مع كرزاي أفغانستان والعراقي نوري المالكي وغيرهما. الرجل وجد الطريق سالكة بعد تواري الجيش القومجي الباسل الذي لا يُقهر إلى خلف الخلف، وفرّ الأسد وفُتحت مكنونات السجون والسراديب والمعتقلات السرية والعلنية، واستفاق العالم أخيرا على مقابر جماعية تظم عشرات الآلاف من الهياكل العظمية، وشعب معطوب وبنيات تحتية مهترئة وجحافل جيش منهك وترسانة عسكرية سوفياتية متآكلة، ليتحوّل المشهد فجأة إلى سيناريو سوريالي محبوك: رجل دموي فرّ إلى روسيا لينعم بما سرق من أموال الشعب، ورجل دموي آخر يجلس على كرسي السلطة، والعالم الغربي المنافق الذي صنّف الجولاني في وقت مضى الإرهابي المطلوب رقم واحد في العالم بعد ابن لادن والزرقاوي والبغدادي، ها هو الآن يخطب ودّه ويتزلف إليه ويتصارع بالمناكب للجلوس معه والتملي بطلعته “الميمونة”، إنها لغة الغرب لغة المصالح والبرغماتية الميكيافيلية – الغاية تبرّر الوسيلة – ولو كانت هذه المنافع ملطّخة بالدماء مضمّخة ببقايا الأشلاء.. نعم، جولاني الأمس إرهابي وجولاني اليوم هو: أحمد الشرع "مسيح" الغرب ومهدي منتظر الشرق. ولله في خلقه شؤون.

6