من ينتصر في العراق: الدولة أم اللادولة

مع تراكم الأخطاء التي أوجدها مفهوم الميليشيات من أعمال قتل وسلب دون تحرك سياسي يعيد إلى الدولة هيبتها أو يحدّ من الظاهرة، أصبح هناك طريقان في العراق لا يلتقيان هما الدولة واللادولة.
الأربعاء 2024/12/25
فوضى.. لا شيء سوى الفوضى

لا تنطبق الكثير من المسميات والنظريات السياسية والمفاهيم على الواقع العراقي، ليس لأنه بلد ما زال يرزح تحت الاحتلال بالرغم من السيادة الشكلية التي يتذرع بها نظامه السياسي، بل لأن ذلك النظام أقل شأناً من أن يُنظّم بنظريات وقوانين تتواجد في أيّ دولة تتمتع بنظام طبيعي، فكل ما يتميز به النظام السياسي في العراق هو الفوضى ولا غير ذلك.

نعتقد أن الحالة العراقية يمكن أن تُعطى دروساً لطلاب الجامعات المتخصصة بتدريس علم السياسة وإنذاراً لمن يريد الاستفادة من غياب الدولة والفوضى الخلّاقة التي صنعتها الولايات المتحدة في العراق ومن ثم ندمت على هذا القرار.

الاحتلال الأميركي وسقوط بغداد أعادا المجتمع العراقي إلى تركيباته الطائفية والعشائرية والقومية، وحتى التي لم تُشظّ بحل الدولة قام الحاكم الأميركي حينها بول بريمر بتمزيق المتبقي منها وترسيخ مفهوم المكونات، مما جعل الهويات الفرعية التي كانت غائبة تسعى للتمثيل في الحكومة ومجلس النواب والهيئات حتى لا يسحقها قطار المحاصصة كما أفقدها الهوية الوطنية.

◄ اللادولة تحولت إلى أرق مزمن للدولة من خلال تعاملها مع المجتمع الدولي وضرورة كبح جماح هذا السلاح المنفلت وأزمة سيادية تتمثل بولائها إلى خارج الحدود

بعد عام 2003، وجد العراقيون في العشيرة والمذهب والطائفة ملاذاً لهم في حياتهم اليومية وعامل أمان بعد أن وقفت الدولة عاجزة عن حماية المواطن الذي أصبح يُقاد بسهولة من الشارع ليُعتقل أو يُسجن أو يُبطش به.

أصبح المذهب هو البوابة الرئيسية لتوزيع الوظائف والمغانم والمنافع، وتحول إلى شعار يُتغنّى به بعد أن غاب مفهوم الدولة. في هذه اللحظة المصيرية نشأ مفهوم الميليشيات، كانت بداياتها جماعات خارجة عن القانون استطاعت أن تنمو وتتجذّر بفعل الحواضن الاجتماعية والسياسية والبيئية التي ساعدت في نمو هذه الظاهرة.

وجدت بعض دول الجوار ضالّتها في تلك الجماعات الميليشياوية التي انقسمت في الولاءات. والغريب في صناعة تلك الميليشيات هو السيادة التي ترفع السلاح من أجلها في الوقت الذي تتعكّز فيه على دول الجوار في رفع هذا الشعار وتسمح لها بالتدخل في شؤون البلد الداخلية.

مع تراكم الأخطاء والسلبيات التي أوجدها مفهوم الميليشيات من أعمال قتل وسلب دون تحرك سياسي يعيد للدولة هيبتها أو يحدّ من هذه الظاهرة، أصبح هناك طريقان في العراق لا يلتقيان هما الدولة واللادولة.

في تاريخ العراق الحديث ظهرت قوى اللادولة من خلال “الحرس القومي” الذي شكّله حزب البعث في العراق عام 1963 بعد انقلاب الثامن من فبراير ووفّر له غطاءً قانونياً بإصداره قانون الحرس القومي باعتبار البعث على رأس السلطة.

◄ الحالة العراقية يمكن أن تُعطى دروساً لطلاب الجامعات المتخصصة بتدريس علم السياسة وإنذاراً لمن يريد الاستفادة من غياب الدولة والفوضى الخلّاقة التي صنعتها الولايات المتحدة في العراق

ربما لا تغيب عن الذاكرة العراقية تجربة الجيش الشعبي التي انبثقت بالعراق في سبعينات القرن الماضي تضم متطوعين مدنيين، كانت وظيفته تعزيز قوة نظام البعث الحاكم بما يمثل قوة شبه عسكرية ليتحول بعد ذلك إلى عامل دعم للقوات المسلحة النظامية في أوقات الحرب التي استمرت ثماني سنوات مع إيران.

أجاد العراقيون توصيف ما يحدث بعد عام 2003 للجماعات التي تحمل السلاح خارج نطاق القانون بالسلاح المنفلت ليتطور في ما بعد إلى مفهوم اللادولة، بعد أن تحوّل ذلك السلاح إلى صدور العراقيين مُحدثاً شرخاً في المجتمع العراقي تسبب بالقتل والتهجير والتنكيل لأبناء البلد الواحد. يُضاف إلى ذلك القاع الصفصف الذي وصل إليه حال البلد جراء تخطّي اللادولة الشؤون العسكرية وحفظ أمن البلد إلى الاستئثار بالاقتصاد والسياسة، ووصل بهم الحال إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر!

لقد تحولت اللادولة إلى أرق مزمن للدولة من خلال تعاملها مع المجتمع الدولي وضرورة كبح جماح هذا السلاح المنفلت وأزمة سيادية تتمثل بولائها إلى خارج الحدود وابتعادها عن القرار العراقي الذي تشّتت بسببها، وتدخلها في الأمور الاقتصادية من خلال هيئات استباحت تهريب الدولار إلى خارج الحدود أو استثمارات تنافس الدولة ذاتها والتفنّن في صناعة الموت على أبناء جلدتها.

قوى اللادولة تجد نفسها اليوم وحيدة في الساحة بعد أن تفتّت مفهوم “وحدة الساحات” وصدر القرار الدولي بضرورة انصهار اللادولة في جسد الدولة وتسليم السلاح المنفلت إلى صاحب الأمر، لكنه قرار صعب التطبيق بعد أن تفرعت مصالح السلاح المنفلت وأصبحت قوة مؤثرة داخل الدولة لها إمكانيات تفوق الدولة ذاتها. فهل من السهل التخلّي عن كل تلك المصالح والمنافع والنفوذ؟ نعتقد أن الأيام القادمة ستخبرنا بالجواب.

9