لماذا فضّلت مصر فوز دونالد ترامب

كل شيء سوف يعود إلى مكانه في العلاقات المصرية – الأميركية. هذا أول انطباع تولّد في القاهرة عقب الإعلان عن فوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب، والذي وصف الرئيس المصري في ولايته السابقة بأنه “دكتاتوره المفضل”، في إشارة أغضبت الكثير من خصوم السيسي في ذلك الوقت.
ورغم المعنى السلبي للكلمة الأولى، إلا أن الكلمة الثانية أجهزت عليه وقدمت مضمونا سياسيا إيجابيا وشاملا، فقد ظلت صفة التفضيل دالة على متانة العلاقة الشخصية بين ترامب والسيسي طوال فترة رئاسة الأول، وظهرت معالمها في التفاهم حول العديد من القضايا على الساحة الإقليمية، ولم تكن أوجه الخلاف تثير قلقا لأحدهما ويتم تذويبها سريعا، ونبع الارتياح وقتها من التوتر الذي ساد بين واشنطن والقاهرة خلال فترة رئاسة باراك أوباما، والذي كان شديد الانحياز لمعارضي السيسي.
وعبّرت التهنئة بالفوز ثم الاتصال الهاتفي الذي أجراه السيسي مع ترامب عن الكثير من التفاؤل بما سوف تشهده المرحلة المقبلة، في علامة تنطوي على إشارة إلى إحياء التفاهم السابق بينهما، مع أن فترة الرئيس جو بايدن بدأت سيئة مع مصر في مجالي حقوق الإنسان والحريات، إلا أن المصالح الحيوية بين البلدين فرضت نفسها وتكفلت بتوفير قدر عال من الهدوء بينهما، الذي لم يخل من منغصات سياسية من حين إلى آخر، لكنها لم تكن بالفتور الذي بدت عليه أثناء فترة أوباما.
◙ إذا كانت القاهرة أقامت رؤيتها على معرفتها بترامب وخبرة السيسي السابقة في الحوار معه، فمن المهم مراعاة فروق التوقيت وحجم التغير
مع ذلك لم تكن القاهرة مرتاحة كثيرا لاستمرار الحزب الديمقراطي في السلطة، وغير مرحبة بإمكانية فوز كامالا هاريس للاستمرار على نهج سياسات بايدن، ورأت في هذه المسألة خطرا بسبب حالة العجز التي سيطرت على إدارة بايدن - هاريس.
وتمسكت القيادة المصرية بعدم الإعلان عن موقف واضح خلال الحملة الانتخابية المحتدمة بين ترامب وهاريس، لكن المعلومات والتحليلات والتقديرات التي حملتها وسائل الإعلام في القاهرة، كشفت عن ترحيب مسبق بعودة ترامب، وأكد ما حمله بيان التهنئة من جانب الرئاسة المصرية واتصال السيسي مباشرة به عقب فوزه، ارتفاع الغبطة بمجيء ترامب، ما حمل إسقاطا سياسيا يشي بأن سنوات العسل بين الرئيسين ستعود مرة أخرى في يناير المقبل.
ويبقى الرئيس المصري مفضلا لدى نظيره الأميركي الجديد - القديم، حيث لم يقم ترامب بممارسة ضغوط حقيقية على القاهرة في المجالات التي تبغضها، ممثلة في حقوق الإنسان والحريات، وكانت محببة للديمقراطيين عندما يريدون مضايقة النظام المصري، بينما هي من النقاط التي تجاهلها ترامب وعززت علاقته بالسيسي.
ناهيك عن موقف ترامب الصارم من جماعات الإسلام السياسي والمتطرفين والميل إلى الحسم بقوة في المواجهة مع الإرهابيين. وهي ملفات تولي لها مصر اهتماما كبيرا، وأسهمت بدور كبير في التفضيل الضمني لترامب على هاريس، حيث بدت مواقف الأخيرة محكومة بإرث ديمقراطي يتعامل مع مثل هذه الملفات بقدر من المرونة والتهاون أحيانا، وكلاهما يقلق مصر.
وتعتبر مصر أن جزءا كبيرا من همومها الداخلية نجم عن الرعاية الأميركية المبطنة للإسلاميين، والواضحة حينا عندما تعاطت واشنطن مع ما يسمّى بالمعتدلين منهم، في مقدمتهم جماعة الإخوان، على أنهم قوى مدنية ديمقراطية من حقها الوصول إلى السلطة، وبعد أن أثبتت تقارير غربية تورط الجماعة في عمليات عنف وإرهاب لم يعبأ بايدن بتغيير نظرة بلاده من الإخوان، واكتفى بتخفيف تقديم الدعم الظاهر.
بالطبع ترامب الذي يستعد للعودة إلى البيت الأبيض سيكون ليس هو الرئيس السابق الذي عرفته مصر وقيادتها السياسية، لأن الشخص نفسه أصبح أكثر نضجا وأقل فجاجة ومحملا بخبرات سوف تنعكس على طريقة تعامله مع القضايا المطروحة أمامه، فضلا عن التغير الحاصل في الأجواء عن تلك التي جاء فيها خلال المرة الأولى، أميركيا ومصريا وعلى صعيد الأوضاع الإقليمية، إذ اختلفت في جوانب كثيرة، فالداخل الأميركي يحظي بأولوية في أجندته، لأن شريحة كبيرة ممن انتخبوه يسعون لأجل تحسين أوضاعهم الاقتصادية والمعيشية، وتوفير الأمن لهم، والحد من التوسع في الهجرة غير الشرعية.
كما أن الرئيس السيسي تجاوز غالبية القضايا الشائكة التي مثلت إزعاجا لحكمه، وأصبح نظاما مستقرا ولا توجد معارضة وتوترات داخلية تقلقه، لكنه سيحتاج لدعم ترامب في تخطّي بعض التهديدات الإقليمية، فخلال فترة رئاسته الأولى لم تتفجر الحرب في قطاع غزة على نطاق واسع، ولم تظهر حدة المخاطر التي حملتها، وما قامت به إسرائيل من تغيير في الجغرافيا السياسية لغزة والضفة الغربية.
أضف إلى ذلك انسداد الأفق أمام حل أزمة سد النهضة الإثيوبي التي كانت مطروحة أيام ترامب وبدا متعاطفا مع موقف القاهرة وقتها، وتصاعد رياح النزاعات في القرن الأفريقي، وحرب السفن في جنوب البحر الأحمر التي تقوم بها جماعة الحوثي من اليمن، وما خلفته من نتائج مادية على قناة السويس، علاوة على اشتعال الحرب في السودان والتي صارت منغصا كبيرا في خاصرة مصر الجنوبية.
◙ جزء من هموم مصر نجم عن الرعاية الأميركية المبطنة للإسلاميين، والواضحة حينا عندما تعاطت واشنطن مع ما يسمّى بالمعتدلين
بالتالي فالتحولات التي حدثت في الواقع الاقتصادي والجيوسياسي لمصر ومحيطها مختلفة، بل حدثت تحولات كبيرة، مطلوب من الإدارة الأميركية الجمهورية التعامل معها بجدية، وتبنّي سياسات تعيد الاعتبار لواشنطن التي تعثرت في التعامل مع التطورات التي تمر بها غالبية القضايا في منطقة الشرق الأوسط.
ومن الضروري أن ترد مصر على أسئلة التحولات الإقليمية الكبرى قبل أن تشرع في ترتيب أوراقها مع الإدارة الجديدة لترامب، وتكون رهاناتها تتناسب مع الواقع، والذي حتما سيفرز طقوسا تحتاج إلى أدوات خلّاقة من قبل واشنطن.
ومن حسن الحظ أن القاهرة لا تزال ركنا أساسيا في التوجهات الأميركية حيال المنطقة، سواء أكان قاطن البيت الأبيض ديمقراطيا أم جمهوريا، بايدن أو ترامب، لكن الآليات يمكن أن تدخل عليها تغيرات تتواءم مع طريقة تفكير الإدارة التي تتحكم في السلطة داخل البيت الأبيض، والحسابات التي تدور في عقل صنّاعها.
إذا كانت القاهرة أقامت رؤيتها على معرفتها بترامب وخبرة السيسي السابقة في الحوار معه، فمن المهم مراعاة فروق التوقيت وحجم التغير الذي طرأ على شخصيته، والحاجة الملحة إلى إظهار قدر من القوة على الساحتين الدولية والإقليمية، وهي محددات تكشف طبيعة الأهداف الأميركية، والتي تضع القاهرة في مكانة جغرافية متقدمة، لكن المستوى الذي سيضع ترامب مصر فيه سوف يتوقف على تناغم قيادتها مع تحركاته، وقد يكون بعضها بعيدا عن المصالح العربية، وهو محك يوضّح منسوب التجاوب أو الرفض المصري معه، ويحدد هل ترامب الجديد نسخة من ذلك الشخص القديم الذي وضع السيسي في مكانة مميزة، أم أدخل تعديلات على خطابه وتوجهاته وطموحاته، وخرائطه السياسية التي بموجبها يصنف بها القادة المقربين منه.