موسم أصيلة يسلط الضوء على دور الحدود الموروثة عن الاستعمار في تغذية النزاعات داخل أفريقيا

شكل موسم أصيلة في دورته الخريفية الخامسة والأربعين فرصة لتسليط الضوء على قضايا مزمنة لطالما أنهكت أفريقيا، ومنها أزمة الحدود التي خلفها الاستعمار والتي لا تزال تذكي نار النزاعات، وتعيق تحقيق تكامل اقتصادي حقيقي في القارة السمراء، رغم الجهود المبذولة من بعض الدول وفي مقدمتها المغرب.
الرباط - كعادته التي سار عليها في تناول قضايا الراهن التي تعيشها القارة الأفريقية، عرض موسم أصيلة الثقافي الدولي في الدورة الخامسة والأربعين مسألة “أزمة الحدود في أفريقيا” للنقاش في أولى ندوات جامعة المعتمد ابن عباد، بطرح قراءات واستشرافات أكاديميين ومسؤولين عرب وأفارقة بخصوص موضوع الحدود والاستعمار الأوروبي للقارة، الذي تم تحميله مسؤولية النزاعات التي لا تزال مستشرية في القارة.
وقال وزير الخارجية المغربي الأسبق ورئيس منتدى أصيلة محمد بنعيسى في الندوة الافتتاحية إن أزمة الحدود في أفريقيا لم تعالج بالحزم المطلوب، ولم تُؤسس على مبدأ الإنصاف الذي ينسجم مع حقائق التاريخ والجغرافيا. وأضاف بنعيسى أن استمرار بعض الأنظمة في تثبيت الوضع الحالي القائم على الحدود الموروثة من الاستعمار يساهم في تأجيج التوترات.
واعتبر بنعيسى، ضمن كلمته في افتتاح “موسم أصيلة الثقافي الدولي” في دورته الخريفية الـ45، الاثنين، أن التأخير في معالجة هذه الأزمة أدى إلى استفادة بعض الدول والأنظمة من مخلفات هذا الوضع، لأغراض توسعية، مستغلة مخلفات الحقبة الاستعمارية، الأمر الذي ساهم في تعقيد الأوضاع أكثر.
واستشهد بالقرار الذي اتخذته منظمة الوحدة الأفريقية في عام 1963، والذي أقر باعتماد الحدود الاستعمارية، مما أدى إلى نشوء نزاعات حدودية وتوترات سياسية عميقة في القارة، وأن التغلب على هذه المعضلة لا يمكن أن يتم إلا من خلال تبني مقاربة جديدة، تقوم على التعاون والإنصاف، بعيدا عن منطق القوة والتوسع.
وتشهد فعاليات الموسم خمس ندوات كبرى تركز على قضايا ذات أهمية راهنة، فإلى جانب الندوة حول أزمة الحدود في أفريقيا، سيجري عقد ندوة حول الحركات الدينية وعلاقتها بالسياسة، كما سيتم تنظيم ندوة تناقش القيم الديمقراطية والعدالة في ضوء المعايير المزدوجة التي يتبناها الغرب في التعامل مع القضايا الدولية.
بالإضافة إلى ذلك، سيحتضن الموسم ندوة حول دور النخب العربية في المهجر، تسلط الضوء على التحديات التي تواجه هذه النخب، وإمكانية تأثيرها في مجتمعاتها الجديدة، وأشار بنعيسى إلى أن الدورة تأتي لمواصلة المساهمة في رفع مستوى وتيرة النقاش العمومي.
وركز أكاديميون ومسؤولون أفارقة وعرب في الجلسة الأولى المخصصة لـ”الجغرافيا السياسية الكولونيالية والقضايا الإستراتيجية الراهنة”، على مخاطر استعمار جديد يهدد استقلالية القارة الأفريقية، حيث شرحوا الواقع الأفريقي في ظل الحدود الموروثة عن الحقبة الكولونيالية، مشددين على تعزيز التعاون لتشكيل تكتلات اقتصادية قوية تساهم في تحقيق التنمية المستدامة.
وفي كلمة ألقاها نيابة عنه فؤاد يزوغ، أكد وزير الشؤون الخارجية والتعاون الأفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج ناصر بوريطة أن التحديات والمشكلات التي خلفتها حقبة ما بعد الاستعمار لا تزال تلقي بظلالها على العديد من الدول الأفريقية، مشيرا إلى أن المغرب اتخذ خطوات فعالة في مناطق الساحل والمحيط الأطلسي للتصدي للتحديات الجغرافية والسياسية التي تواجه بعض الدول، بهدف تعزيز التعاون الإقليمي والتكامل بين دول المنطقة.
وفي الجلسة الثالثة من ندوة “أزمة الحدود في أفريقيا.. المسارات الشائكة”، التي نظمت ضمن فعاليات اليوم الثاني من موسم أصيلة الثقافي الدولي الخامس والأربعين، المخصصة لمناقشة “أفريقيا: حدود، أمن وتجارة حرة”، أكد السفير السابق للمملكة المغربية برومانيا حسن أبوأيوب على أهمية إعادة النظر في مسألة الحدود الأفريقية التي تسببت في الكثير من المشكلات الأمنية والسياسية في القارة، موضحا أن النقاش حول الحدود الموروثة عن الاستعمار كان حاضرا منذ إنشاء منظمة الوحدة الأفريقية في عام 1963، لكنه تأجل إلى قمة القاهرة بعد عام، التي انتهت بقرار، افتقد إلى التبصر ولم يأخذ في الحسبان التعقيدات الثقافية والبشرية للقارة الأفريقية.
وعكس ما ذهبت إليه بعض المداخلات الداعية إلى سير أفريقيا وفق المنهج الذي سارت عليه الدول الأوروبية، شدد أبوأيوب على أن النمط الأوروبي للدولة نشأ وطور في مناخ مختلف عما عرفته الدول الأفريقية، مؤكدا أن الوقت قد حان لتجاوز فكرة الحدود التقليدية لصالح تكتلات جهوية تعتمد على أسس ديمقراطية تشاركية وتحترم الهويات الثقافية والدينية المشتركة، وأن تحظى النخب الأفريقية والحكومات بإرادة سياسية لإعادة تقييم تجربة العقود السابقة، بهدف بناء نموذج جديد يتماشى مع تطلعات القارة.
من جهته، قال حاتم عطا الله، السفير التونسي الأسبق والمستشار في العلاقات الدولية، إن التوصية التي تم تبنيها في القارة بعد الاستقلال جاءت لتجنب بعض النزاعات والمشاكل التي يمكن أن تؤثر على القارة، إلا أن النتائج لم تكن في مستوى التطلعات، لافتا إلى أن عوامل التجميع في أفريقيا “أكثر من عوامل التفريق بين الشعوب”، مؤكدا أن السياق التاريخي يبين أن معظم الحدود تم رسمها على يد المستعمر، وبالتالي فإن مفهوم شفافية الحدود “ينقصه الوضوح، وليس هناك أي تعريف للأسس التي تم بناء الحدود عليها”.
ومع معاناة الكثير من الدول الأفريقية من التفكك وانتشار المجموعات المسلحة التي تهدد استقرار الكيانات الوطنية، أكد زكرياء أبوالذهب، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة محمد الخامس، أن القارة الأفريقية لا تزال تعاني من آثار الاستعمار، حيث تشهد تشرذما وتمزقا وبلقنة، وهو ما يعد انعكاسا للإرث الاستعماري، موضحا أن “الاستعمار ترك وراءه منظومة قانونية بمفاهيم استعمارية غير منصفة، تستند إلى مرجعيات غربية لا تأخذ في الاعتبار خصوصيات الشعوب الأفريقية، وهو ما يستوجب إعادة النظر في مجموعة من القوانين والتشريعات التي تعتمد على تلك المرجعيات”.
وأشار أستاذ العلاقات الدولية إلى أهمية مشروع إقامة منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية، مؤكدا أن هذا المشروع يمكن أن يشكل نقطة انطلاق نحو تكامل اقتصادي حقيقي، وأن تجاوز الحدود الجغرافية الضيقة والبحث عن فضاءات اقتصادية جديدة سيساهمان في تحقيق التنمية المستدامة ويعززان من مكانة أفريقيا على الساحة الدولية.
وأجمع الكثير من الأكاديميين على أن الدفاع عن الاستقلال يجب دعمه ببذل مجهود على المستوى المفاهيمي والأبستمولوجي، حيث أكد مصطفى حجازي، خبير الإستراتيجية السياسية المصري، في مداخلته أن غياب ما أسماه بقوة الفكرة قد يؤدي إلى تحول الأوضاع في أفريقيا إلى صراع اقتصادي جديد يهدف إلى استغلال ثروات القارة دون تحقيق أي مكاسب حقيقية لشعوبها، وتجاوز البعد الاستعماري يتطلب بحثا عميقا عن الهوية الأفريقية وشخصيتها المتكاملة.
والاستعمار الأوروبي ليس فقط عملية نهب، بل جاء مصحوبا بفلسفة استعمارية تهدف إلى تقديم المستعمر كمنقذ للقارة، حيث حذر حجازي من القبول بالمتاح في القضايا الأفريقية، مشددا على ضرورة السعي لتحقيق المطلوب والواجب، مؤكدا أن الاستعمار القديم قام على “العقلية السعرية” التي تقيم كل شيء بناء على قيمته المادية.
◙ مشروع أنبوب الغاز نيجيريا – المغرب يمثل فرصة لكسر القوالب الجامدة للتعاون الأفريقي ورفع مستواه نحو التكامل والاندماج
وكنموذج قابل للتطبيق في إطار التكامل الاقتصادي، اعتبر الكاتب الموريتاني عبدالله محمدي أن مشروع أنبوب الغاز نيجيريا – المغرب يمثل فرصة كبيرة لكسر القوالب الجامدة للتعاون الأفريقي ورفع مستواه نحو التكامل والاندماج، مشيرا إلى أنه مشروع طموح وله تأثير كبير على مستقبل القارة.
وأضاف أن التفاوت الاقتصادي بين الدول الأفريقية يشكل تحديا كبيرا أمام الاندماج، ولكن يمكن التغلب عليه من خلال التضامن الأفريقي والعودة إلى القيم الأفريقية الأصيلة التي تقوم على مبدأ الشراكة الرابحة للجميع، مشيرا إلى أن المشروع الذي تحدث عنه العاهل المغربي الملك محمد السادس في خطابه الأخير أمام البرلمان، سيعزز التكامل بين دول القارة، معتبرا أن التحديات التي قد تواجه هذا المشروع، سواء كانت سياسية أو أمنية، يجب أن تكون حافزا على المضي قدما وليس عائقا.
وفي إطار أزمة الحدود الأفريقية وعلاقتها بالهيمنة الاستعمارية، اعتبر محمد المدني الأزهري، الأمين العام السابق لتجمع دول الساحل والصحراء، إلى أن الخلل الأساسي الذي تشكله أزمة الحدود في القارة الأفريقية كان في افتراض أن الدول التي تشكلت بعد الاستعمار مشابهة للدولة القومية الأوروبية، موضحا أن القارة الأفريقية تاريخيا لم تعرف مفهوم “دولة الأمة” كما في أوروبا، بل كانت عبارة عن تجمعات بشرية تحكمها قبائل وسلاطين وإمارات.
وأوضح مصطفى حجازي أنه “إذا غابت قوة الفكرة عما يأتي في حديثنا عن مستقبل أفريقا سينقلب الأمر إلى تكالب مرة أخرى من باب البرغماتية الاقتصادية أو التناطح الاقتصادي وينتهي الأمر إلى صراعات لا نهائية لن تستفيد منها أفريقيا بل سيستفيد منها من أوصلوها إلى ما نحن عليه اليوم وبالتالي استدعاء قوة الفكرة أصبح أمرا واجبا ولا مناص عنه”.
وإذا كان الاستعمار لم يقتصر على رسم الحدود بين الدول فقط، فقد اعتبر الصادق الفقيه، الأمين العام لمنتدى الفكر العربي في عمان، أن تلك الحدود لا تزال تمثل تحديا كبيرا للقارة، حيث عمدت القوى الاستعمارية إلى رسم تلك الحدود وفقا لمصالحها، مما أضاف تعقيدات جديدة إلى الوضع السياسي والاجتماعي في أفريقيا، وأسهم في تفاقم التوترات الاجتماعية والسياسية داخل الدول الأفريقية.