إشكالية التغيير السياسي عند الكُرد

التغيير المنشود بات مرهونا تماما بالتغيير السياسي الكردي الداخلي والمستعصي على الولادة لانتفاء المخاض.
الثلاثاء 2024/10/15
طريق الإصلاحات ليس معبدا

آثرت هنا تسمية الإشكالية على المشكلة لأن الإشكالية هي مرحلة متقدمة من المشكلة تتسم بالتعقيد النظري والعملي المركب. وهي مفهوم أوسع وأعم من المشكلة، كما أنها قد تضم مجموعة متداخلة ومتشابكة من المشاكل. هذا بالإضافة إلى أن الإشكالية غالبا ما تتحول إلى ظاهرة أو ظواهر مزمنة ومتجذرة في الزمان والمكان والعقل والوعي والذاكرة ويصعب حلها على عكس المشكلة التي غالبا ما تكون آنية وعابرة وسهلة الحل.

وعندما حصرت الحديث هنا حول مسار التغيير المتعثر لدى الكرد في السياق السياسي أو في إطار القوى السياسية الكردية الفاعلة على الأرض، فذلك لأن السبب يكمن في أن التغيير الإداري والاقتصادي والاجتماعي والثقافي المنشود بات مرهونا تماما بالتغيير السياسي الكردي الداخلي والمستعصي على الولادة لانتفاء المخاض.

فالمتابع للشؤون السياسية الداخلية الكردية في كافة أجزاء كردستان سيصاب بالذهول والصدمة لعدم حدوث أي تغيير جوهري بالمعنى الإيجابي للكلمة في سياسات كبرى القوى السياسية الكردية منذ عقود بحيث تتماشى مع جوهر القضايا الكردية المعلنة والمتبنية كرديّا، وتتواءم مع نسخة العصر السائدة في السياسة والدبلوماسية، وعلى أساس مبدأ تحديد الأولويات وإدارتها بعد الإجماع حولها. والأنكى من ذلك، سيلاحظ الفاحص للحياة السياسية الكردية حصول عدة تغييرات غير مجدية وسلبية وسوداوية صبت ومازالت تصب في الاتجاه الخاطئ.

فالشقاق والتنابذ ولغة التخوين بين القوى السياسية الكردية هي السائدة داخل كل جزء من أجزاء كردستان على حدة وبين الجزء والجزء الآخر. والمنطق الأعوج في الإدعاء بأحقية وأحادية تمثيل الكرد من قبل القوى الكردية الفاعلة في أوجّه، ونية التخلص من الشقيق المفترض أو إقصائه وتهميشه هي الغريزة السياسية الحية التي تنتعش وتنمو بشكل مطرد لدى معظم القوى السياسية الكردية المهيمنة.

وأغلب الأقوياء – الضعفاء من الإخوة – الأعداء لا يتورعون عن الاستنجاد بأنظمة الدول المجاورة التي تقمع الكُرد الآخرين لتأديب ومعاقبة المنافسين والخصوم الكُرد، ولأغلبهم باع طويل في هذا العار. والبعض لا يرى في احتلال بعض الدول التي تضطهد الكرد لأراضي الكُرد الآخرين احتلالا، لا بل ضرورة وتحريرا. والفساد المالي والإداري الممنهج من الأعلى إلى الأسفل مستشر ومتفش في أجهزة ومؤسسات الإدارات والأحزاب الحاكمة. ومئات بل وآلاف الشباب يغادرون الوطن يوميا بسبب العوز والفاقة بعد أن أصبح واقعيا حكرا على الحكام والمتسلطين والمتنفذين والمستفيدين والمريدين والأتباع والمصفقين.

الشقاق والتنابذ ولغة التخوين بين القوى السياسية الكردية هي السائدة داخل كل جزء من أجزاء كردستان على حدة وبين الجزء والجزء الآخر

والمدقق في الجزئيات والكليات المتعلقة بالأداء السياسي الكردي على مستوى أجزاء كردستان الأربعة، ولاسيما في كردستان العراق وكردستان سوريا، سيستنتج دونما عناء أن جل التغيير الحاصل داخل الحياة السياسية الكردية والإدارية كان ولا يزال نحو الأسوأ أو في الاتجاه الخاطئ الذي لا يتناغم مع روح وماهية القضايا الكردية في المنطقة. وبالتالي يعكس غياب الكاريزما القيادية والنضوج والوعي السياسي والدبلوماسي الكردي الذي من شأنه ركوب موجة السياسة والدبلوماسية الدولية واستيعاب المنطق الظالم المهيمن في العلاقات الدولية.

قد يندرج الاستنتاج أعلاه في عداد البديهيات بالنسبة إلى القلة القليلة من الكُرد على المستويين المجتمعي والنخبوي، ولكنه ليس كذلك بالنسبة إلى الأعم الأغلب من الكُرد على المستويين المجتمعي والنخبوي الذي لا يزال يؤمن بأن العوامل الموضوعية التاريخية والحاضرة المتعلقة بإرادات ومصالح الدول العظمى هي التي كانت ومازالت تشكل المعوقات الرئيسية أمام تحقيق الكُرد مراميهم في الاستقلال، وليست العوامل الذاتية المرتبطة ارتباطا وثيقا بالعقل السياسي الكردي العليل الذي ما انفك ينتج أداء غريبا وشاذا لا ينتمي إلى عالمي السياسة والدبلوماسية في السياقين العام والمرحلي الشائع.

وهنا تثار بعض الأسئلة المفصلية التي تحتاج إلى أجوبة من أصحاب العلاقة: ما هي تحديات التغيير السياسي الإيجابي والمطلوب لدى الكرد؟ وهل هذه التحديات ذاتية مرتبطة بعقل الكرد ووعيهم السياسي النخبوي والجمعي أم أنها خارجية وخارجة عن إرادتهم؟ هل غياب التغيير المطلوب أو عدم حدوثه مسألة اختيارية قصدية ترجع إلى عدم رغبة الكرد في التغيير أم مسألة قسرية على النقيض من رغبتهم؟ لماذا الكُرد وبشكل أدق قادتهم لا يريدون أو لا يعملون من أجل التغيير الذي يصب في صالحهم العام؟ بمعنى آخر، هل الكُرد هم أعداء التغيير؟ ولماذا أغلب التغييرات الحاصلة تحصل في الاتجاه الخاطئ بدليل انعكاسات النتائج الكارثية السائدة من تزايد التنابذ والتناحر واشتداد عود لغة التخوين وعدم التورع عن الاستعانة بالأعداء لضرب الأشقاء ولجمهم وتحجيمهم، والمخاوف والاحتمالات المتصاعدة التي تهدد بتقويض المُنجز؟

يقول أفلاطون “السلوك البشري ينبع من ثلاثة مصادر: الرغبة والعاطفة والمعرفة”. والسلوك البشري في السياق الذي عناه أفلاطون يشمل الفعل الفردي والجماعي على حد السواء، وبالتالي عند غياب المصادر المشار إليها أو شللها ينتفي الفعل بانتفاء الحاجة إلى الفعل.

وبالنسبة إلى التغيير يقول جورج برنارد شو “التقدم مستحيل من دون تغيير، وأولئك الذين لا يستطيعون تغيير عقولهم لا يستطيعون تغيير أي شيء”. لكن استنتاج شو قد يبدو الآن بديهيا لمعظم الذين تؤرقهم إشكالية التقدم والتغيير في العالم الهامد. والسؤال الذي بات لا يبارح مخيلة الكثيرين هو كيف السبيل إلى تغيير العقول؟ وماذا عن تلك الشعوب التي تتغير عقول معظم أفرادها ونخبها وسياسييها نحو الأسوأ وليس الأفضل؟ يقول توماس أديسون “الأرق هو الاستياء، والاستياء هو الخطوة الأولى إلى التقدم”. لكن إذا خلا مجتمع ما من المستائين إزاء رداءة وسوء وسلبية الأوضاع الراهنة، لا بل وإذا فسّر معظم الرعية تلك الرداءة والسلبية على أنها نعمة وإنجازات، إذًا فهو الانحطاط والدرك الأسفل لا محالة.

مشكلة الكردي أنه يريد من العالم أجمع أن يتغير من أجله ولكنه لا يريد أو لا يستطيع أن يغير نفسه أو لا يشعر بأنه من الضروري أن يتغير ليواكب العصر ويفي بمتطلباته وتعقيداته

التاريخ البعيد والقريب زاخر بالأمثلة التي تشير إلى أن جميع الشعوب والأمم التي قارعت التخلف والجهل وهشمت قيود الانحطاط ودشنت سبل الازدهار، إنما فعلت ذلك كله إيمانا بالتغيير نحو الأفضل وانطلاقاً من الذات وبفضل الذات وليس انطلاقاً من الآخر أو بفضل الآخر. حقّقت ذلك أولاً بنقد وفضح وتلعين الذات العاقة وغير العاقلة والمعرقلة بعد إسقاط القدسية الزائفة والتمجيد المفتعل الوهمي عنها. قرأت تاريخها وحاضرها بعيون فاحصة مدققة نقدية وليس بتأليه وتقديس كل ما ينسب إلى تاريخها وحاضرها وإيجاد المسوغات الوهمية الواهية للإخفاقات والانكسارات المدوية. على هذا الأساس، شهدت أوروبا تباعا عصور الإصلاح الديني والنهضة والتنوير والثورة الصناعية والديمقراطية. وعلى أساس الإيمان بالتغيير وضرورته أحدث مهاتما غاندي ونلسون مانديلا ومهاتير محمد ولي كوان يو وسواهم انقلابات فكرية وسياسية وإدارية وصناعية صميمية في بلدانهم.

كرديّا ليس هناك مشروع وطني أو قومي جامع للبناء ليكون هناك مشروع للتغيير وإعادة البناء وإنما هناك عدة مشاريع متناقضة ومتضادة على المستويات المناطقية والحزبية والعشائرية والأيديولوجية تستهدف الاستحواذ على كل شيء وإلغاء الشقيق المفترض أو على الأقل تهميشه وإقصاءه. ولذلك ليست هناك دبلوماسية كردية واحدة بل دبلوماسيات كردية متناقضة وليست هناك سياسة كردية واحدة بل سياسات كردية متعادية. وبناء عليه، فليست هناك قضية كردية واحدة بل قضايا كردية متضاربة مرتبطة بالمصالح والأجندات الفئوية الضيقة.

مشكلة الكردي أنه يريد من العالم أجمع أن يتغير من أجله ولكنه لا يريد أو لا يستطيع أن يغير نفسه أو لا يشعر بأنه من الضروري أن يتغير ليواكب العصر ويفي بمتطلباته وتعقيداته، وأقصى ما يريده الكردي هو أن يغير خصمه ومنافسه (عدوه) الكردي الآخر بالقسر والإكراه. والنتيجة هي أن أبواب التغيير لدى الكرد مازالت موصدة بإحكام ولا سبيل لشرعها في الوقت الحاضر لأنها مسدودة وفق رغبة ومعرفة وإرادة العقل أو اللاعقل الكردي.

يبدو أن عقدة التغيير لدى الكُرد ستضاف إلى العديد من العقد النفسية المتداولة أكاديميا ومعرفيا ويبدو أن مفهوم مقاومة التغيير الذي أشار إليه فرويد في أكثر من مبحث من مباحثه على المستويين الفردي والجماعي قد تجسد وتجلى في أبهى نماذجه وملامحه عند الكُرد ألد أعداء التغيير.

كتبت سابقا عن عدم وجود أمة كردية لعدم وجود روح للأمة لدى الكُرد استنادا إلى نظرية غوستاف لوبون في الأمة وروح الأمة، لكني بدأت الآن أشك في وجود شعب كردي بالمعنى الاصطلاحي، والمصطلح الأنسب لهذه المجموعة البشرية التي أدمنت على الشقاق والضياع والانتحار هو الجمهور. وكما يقول الفيلسوف الروماني إميل سيوران “لأننا فشلنا في تكوين إنسان يفكر، لم يتكون لدينا شعب، بل تشكل لدينا جمهور، جمهور مصفق وجمهور لاعن، يصفق مرة ويلعن مرة، لكنه لا يفكر”.

مقومات التغيير غائبة ومشلولة لدى الكُرد، فالزعيم الكردي لا يستطيع أن يكون إلا زعيما لفئة محدودة ومحددة من جمهوره، ولم يشهد التاريخ ولا الحاضر وجود زعامات كردية كاريزمية من شأنها التجييش والاستقطاب قوميا وتبني برامج وطنية وقومية جامعة. والمثقف الكردي أو ما يسمى بالمثقف الكردي ليس إلا بوقا لبعض القادة ولعنة على القادة الآخرين، بمعنى أنه مثقف السلطة أو الحزب. ولا يوجد إعلام مهني حقيقي وإنما إعلام حزبي، ولا توجد مراكز دراسات وأبحاث كردية مستقلة ومختصة في الشؤون والشجون الكردية، وكل ما هو موجود هو حكر وملك للأحزاب الحاكمة والمتنفذة وفي خدمة أجنداتها وبرامجها. والنتيجة المريرة هي أنه لا توجد أعراض أو مؤشرات على التغيير تلوح في الأفق. وبالتالي سيبقى الجمهور الكردي يدور في عين الحلقة المفرغة التي تأبد فيها والتي صنعها بنفسه حتى إشعار آخر غير معلوم.

7