هل تتوفر شروط قيام سلطة فاشية بالعراق

القوى السياسية الديمقراطية في العراق مدعوة وبقوة للوقوف بوجه التوجه الفاشي للقوى الإسلامية.
الثلاثاء 2024/09/03
ملل ونحل تتسابق لتوظيف المقدسات

الإسلام السياسي في العراق عبارة عن منظومة متكاملة من مرجعيات وأحزاب سياسية وتنظيمات شبه عسكرية رجعية الطابع والتوجه، مهمّتها الأساسية قمع كل أشكال الحريات والتنظيمات النقابية والنسوية والشبابية والطلابيّة المناوئة لها، والتضييق الشديد على الأحزاب السياسية من غير المشتركة في نظام المحاصصة الطائفية والقومية كمرحلة أولى.

ومن خلال توظيفها للمقدس في جميع مناحي الحياة بالبلاد، فإنها تقوم بتوسيع قاعدتها الاجتماعية عن طريق إرهابها وخطابها الديني وهيمنتها على اقتصاد البلاد، وهي تسعى وهذا ما يجب على القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني الانتباه إليه والعمل على مقاومته، إلى إشاعة اليأس بين الجماهير من خلال خطاب ديماغوجي موجّه وتخديرها بخطاب ديني ماضوي رجعي متخلّف، لتوهمها من أنّ لا أمل في تغيير المعادلة السياسية في البلاد التي تسير نحو هيمنة فكر إسلامي فاشي، سيترجم لاحقا إلى نظام سياسي فاشي من خلال التحكّم بقوت الناس وقوّة السلاح والمال والإعلام والفتاوى الدينية وشراء السلطة القضائية.

إنّ القوى السياسية المؤمنة بالديمقراطية الحقيقية وليست المحاصصاتية كالتي تقود بلادنا اليوم، مدعوة وبقوة للوقوف بوجه التوجه الفاشي للقوى الإسلامية من خلال توعية الجماهير بخطورة الفاشية على مستقبلها ومستقبل الأجيال القادمة والوطن، لأن مقاومة هذه القوى أي الفاشيّة الدينية مستقبلا وهي تمتلك كل مفاتيح البلاد، ستكون أمرا معقّدا وصعبا ومكلفا جدا.

ونحن نتناول أوضاع البلاد المعقّدة والدقيقة من خلال هيمنة الإسلام السياسي على مقاليد السلطة، علينا أن نجيب عن سؤال سيترجم مستقبلا إلى حقيقة في حالة استمرار الأوضاع على ما هي عليه اليوم، وهو أن كانت هناك امكانية حقيقية لقيام نظام إسلامي فاشي النزعة، خصوصا وأنّ الأجواء السياسية والأيديولوجية لنجاح الفاشية الدينية لها ركائزها القوية في مجتمع مؤدلج ويعاني من تخندق طائفي وبطالة وفقر وأميّة وانعدام للوعي بشكل مخيف، كما العراق؟.

من خلال المهام التي تتبناها القوى الدينية بجميع مؤسساتها السياسية والاقتصادية والعسكرية والإعلامية، نرى أنها متفقة بالكامل تقريبا على قضم الحريات بشكل ممنهج ومدروس، وقمع النقابات والاتحادات المهنية من خلال قوّة “القانون” الذي تسنّه بنفسها وعلى مقاساتها، أو من خلال نقاباتها واتحاداتها المهنية الصفراء المختلفة، وهذه التجربة كانت تجربة مأساوية مرّ بها شعبنا عهد النظام البعثي الفاشي، الذي صبغ بالقوّة الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية أيديولوجيته التي دمرّت بلادنا وشعبنا.

إننا اليوم في العراق نعاني من أزمة اجتماعية كبيرة وخطيرة، قام الإسلام السياسي بتغذيتها بعد أن ورثناها من النظام البعثي، ونرى اليوم من يعمل على توسعتها لتحتل الصدارة

والقوى الدينية اليوم تصبغ كما البعث الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بأيديولوجيتها الدينية الطائفية، لكنّها تتفوق على البعث كونها تصبغ كل شيء بالمقدّس، وتطرح مرجعياتها الدينية والسياسية والميليشياوية كرجال كاملي القداسة وعلى المجتمع وخصوصا الشيعي تأليههم إن أمكن، ولدينا بالفعل اليوم رجال دين عبروا مرحلة القداسة إلى مرحلة التأليه، وهذا التأليه هو القنبلة الموقوتة التي ستنفجر يوما نتيجة تعدد مراكز القوى والتناقضات السياسية التي تعيشها البلاد وقلّة وعي الجماهير، وحينها سيظهر الوجه الفاشي الحقيقي المدمّر للإسلام السياسي.

لا تظهر الفاشية كنظام سياسي في البلدان المختلفة في ظل ظروف متشابهة، ولا تصل إلى السلطة المطلقة بشكل مفاجئ، فهي تناور وفقا لظروفها الذاتية والسياسية القائمة وتلك التي تمر بها مجتمعاتها، وعليه فإنّها تختلف من بلد إلى آخر. فالفاشيّة الألمانية الحديثة أي دولة الفوهرر (القائد) وريثة الفرسان البروسيين الذين احتكروا المناصب العسكرية منذ القرن السابع عشر وحتى انهيار الرايخ الثالث نهاية الحرب العالمية الثانية، هي امتداد للمؤسسة العسكرية الالمانية التقليدية، وهي تختلف عن الفاشية الإيطالية التي انبثقت بعد مسيرة ذوي القمصان السوداء من أعضاء الحزب الوطني الفاشي بزعامة موسوليني نحو روما والذي عيّنه ملك البلاد وقتها فيكتور ايمانويل الثالث، بعد خوف كبار الرأسماليين والاقطاعيين من نشاط الحزب الشيوعي الإيطالي وثقله بين صفوف الجماهير.

أمّا تجربة الفاشية الإسبانية بزعامة فرانكو فهي الأقرب لواقعنا العراقي من الفاشيتين الألمانية والإيطالية، حيث كانت العلاقة وثيقة بين المؤسسة الدينية والنظام القائم حينها، وكانا يعملان من خلال تلك العلاقة على حماية النظام الاجتماعي القائم اللذين يمثلانه، ومصالحهما كانت تحت خطر قوى متضررة بينها عمال وفلاحون ومثقفون يساريون وليبراليون، حيث أرادت تلك القوى الحد من تدخل رجال الدين وفرض سلطتهم على الدولة والمجتمع.

وحول الحرب الأهلية في إسبانيا ودور الدين وتدخل رجالاته في الشأن السياسي يقول المؤرخ الإسباني خوليان كازانوفا في الفصل الثاني من كتابه “الحرب الأهلية الإسبانية” في فصل تحت عنوان “الحرب المقدسة والكراهية المعادية لرجال الدين” إنّ الحرب الأهلية الإسبانية “كانت حربًا عادلة ومقدسة في أحد المعسكرين، وخلفت غضبًا عارمًا لا يرحم انفلت من عقاله ضد رجال الدين في المعسكر الآخر، الأمر الذي خلّف ندوبًا كبيرة في ذاكرة الشعب الإسباني”.

هل هناك إمكانية لقيام نظام ديني فاشي بالعراق؟

الكثير من الآراء تقول بصعوبة، بل وباستحالة قيام أنظمة فاشية في بلدان غير متطورة اقتصاديا وصناعيا. وتنطلق هذه الآراء من أنّ الفاشية كظاهرة نشأت في أوروبا في الفترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية نتيجة التطور الرأسمالي لتلك المجتمعات. إلا أننا نلاحظ أنّ الفاشية هناك لم تظهر على نفس الدرجة من التطور الرأسمالي. فإيطاليا لم تكن على نفس الدرجة من التطور مقارنة بألمانيا، أمّا إسبانيا والتي انتصرت فيها الفاشية هي الأخرى فإنها كانت وإلى اليوم من الاقتصاديات الضعيفة مقارنة بكبار القارّة. فإذا كان شكل التطور الرأسمالي لا يمثل شرطا أساسيا لنشوء الظواهر الفاشية في المجتمعات والدول المختلفة كنشوئها وقيادتها لبلدانها كما حدث في العديد من بلدان أميركا اللاتينية والجنوبية، فإنّ إمكانية قيامها في العراق الطائفي وعلى غرار فاشية تلك البلدان ومنها فاشية الأحزاب اللبنانية أثناء الحرب الطائفية فيها وهي القريبة منا جغرافيا ودينيا وثقافيا ستظل ممكنة، خصوصا وأنّ هناك عوامل تساعد على مضي الإسلام السياسي في مشروعه الفاشي منها:

على المؤسسة الدينية أن تستفيد من التجربة الإسبانية أثناء الحرب الأهلية وتبتعد عن التدخل في الشؤون السياسية بالبلاد احتراما للدين ولرجال الدين أنفسهم

1- استمرار الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وعجز الإسلام السياسي كونه على رأس السلطة التنفيذية والأكثر تمثيلا في البرلمان ومهيمنا على القوّة القضائية، عن إيجاد حلول تحول دون تفاقمها ممّا يؤثر على حياة الناس ومستقبل البلاد.

2- قدرة الأحزاب الإسلامية على تعبئة الشارع طائفيا، ودور تنظيماتها المسلّحة في تهديد السلم الأهلي متى ما رأت ذلك ضرورة لفرض سياستها واستمرارها في السلطة.

3- قلّة وبالأحرى انهيار كبير في مستوى وعي الجماهير، والتي تستغلّها قوى الإسلام السياسي في ترسيخ الطائفية والعشائرية والقبلية وهي التي تصبغ حياة العراقيين اليوم.

4- وجود رموز دينية سياسية تُقدّس وتُعبد كآلهة وقادرة على إشعال حرب طائفية أو تبني مشروع فاشي للسلطة متى ما أرادت، وهي قادرة فعلا على تحشيد وإنزال مئات الآلاف من المؤمنين بهم إلى الشوارع.

5- تسلّح القوى الإسلامية بفتاوى دينية، أي منح نفسها صفة القداسة والعصمة في تعاملها مع من يخالفها الرأي.

6- ارتباطها الوثيق بعواصم إقليمية تحوّلت أنظمتها بشكل ممنهج إلى مشروع سلطة فاشي يمنع قيام أحزاب وتنظيمات سياسية وتشكيل النقابات والاتحادات غير الإسلامية تلك التي ترتبط بأجهزة السلطة وتنفّذ سياساتها، ما يدفع الإسلام السياسي بالعراق وهو الذي له ولاء تام لتلك العواصم لاستنساخ تجربتها وتطبيقها في البلاد.

7- استخدامها الغطاء الديني لأثارة الجماهير وتأجيج الخطاب الطائفي لتغييب وعيها أكثر ممّا هي عليه اليوم، وزجّها في تشنّجات ومواجهات طائفية ستقود إلى صراع حتمي ومن ثم حرب طائفية كالتي عاش شعبنا ويلاتها سابقا لاستكمال مشروعها الفاشي، أو الدفاع عن سلطتها من الانهيار كما جرى إبّان انتفاضة تشرين/ أكتوبر عام 2019.

8- تبنيها للإرهاب السياسي والميليشياوي والديني الطائفي لمصادرة الحريات والتضييق على الثقافة التقدميّة باعتبارها الخطر الأكبر الذي يهدد مشروعها الثقافي الفاشي المتخلّف. فهذه القوى الموغلة في الرجعية هي كما وزير الدعاية الألماني غوبلز تراها تصع أصابعها على زناد مسدساتها كلمّا سمعت كلمة ثقافة.

9- احتكار موارد الدولة المالية والتصرّف فيها بما يخدم مشاريعها الطائفية والعشائرية، من خلال توزيع ثروات البلاد بين أجنحتها السياسية وشبه العسكرية المختلفة حسب قوّتها في الشارع وثقلها في السلطتين التنفيذية والتشريعية.

إننا اليوم بحاجة حقيقية لبناء حركة شعبية واسعة بشعارات وطنية مناهضة للطائفية السياسية والعشائرية والقبلية وهي الركائز التي يعتمد عليها الإسلام السياسي لتمرير مشروعه الفاشي

إننا اليوم في العراق نعاني من أزمة اجتماعية كبيرة وخطيرة، قام الإسلام السياسي بتغذيتها بعد أن ورثناها من النظام البعثي، ونرى اليوم من يعمل على توسعتها لتحتل الصدارة. على القوى السياسية المؤمنة بالديمقراطية الحقيقية ولمواجهة هذا الخطر الذي يهدد حياة شعبنا، أن تعمل على تعريف الفاشية وخطرها على البلاد للجماهير المكتوية بنار الفقر والبطالة وفساد السلطة، باستخدامها لكل الوسائل والأساليب السلمية من خلال التظاهرات والاعتصامات والمنابر الإعلامية، وزجّ منظمات المجتمع المدني في هذا النضال الوطني.

إننا اليوم بحاجة حقيقية لبناء حركة شعبية واسعة بشعارات وطنية مناهضة للطائفية السياسية والعشائرية والقبلية وهي الركائز التي يعتمد عليها الإسلام السياسي لتمرير مشروعه الفاشي، حركة شعبية تدعو وتعمل على الإسراع في تغيير شكل نظام الحكم المحاصصاتي القائم اليوم.

على المؤسسة الدينية أن تستفيد من التجربة الإسبانية أثناء الحرب الأهلية وتبتعد عن التدخل في الشؤون السياسية بالبلاد احتراما للدين ولرجال الدين أنفسهم، خصوصا وأن الدين اليوم ولفساد أحزاب الإسلام السياسي والخراب الذي يغطي مساحات كبيرة من حياة الناس، أصبح محل تشكيك وفي مرمى سهام النقد ومنه النقد الجارح وهذا ما لا نريده للدين لقدسيته عند ملايين المؤمنين به.

إنّ تجارب الشعوب التي تداخلت فيها السلطتان السياسية والدينية وسببتا مآس تاريخية فيها، يجب أن تكون تحت أنظار المرجعيات الدينية بالعراق كونها مسؤولة أمام الله والشعب والتاريخ على ديمومة الدين نفسه وحياة الناس وبلدهم. إنّ خطر قيام الفاشية الدينية بالعراق لا يأتي من كونها مشروعا فاشيا فقط، بل يأتي كما يستعرض الكاتب التنويري حامد عبدالصمد في كتابه “الفاشية الإسلامية” من كونها “تبدو كأنها دين سياسي، يعتقد أتباعها أنهم يملكون الحقيقة المطلقة، ويقف قائدهم المعصوم على قمة هرم السلطة، متسلحا بمهمة مقدسة لتوحيد الأمة وسحق خصومها، تشترك الإسلاموية الحديثة في كل هذه الصفات، ومعارضة كل ما هو حداثي، ومحاربة قيم التنوير وإعلاء فكرة التضحية بالنفس حتى الموت في سبيل الأفكار الفاشية.” وعراقيا يعني الموت والدمار في سبيل إعلاء قيم الطائفة ومن بعدها العشيرة، ولدينا أكثر من قائد “معصوم” معاد للحداثة وقيم التنوير، وهدفه الأسمى هو العودة بالعراق الى السنوات الأولى لبدء الإسلام.

أربعة عشر ألف فاشي من أصحاب القمصان السود قادهم موسوليني سنة 1922 من ميلانو نحو روما بالقطارات والحافلات، رافعا شعار “إما أن تُعطى لنا الحكومة أو سنأخذ حقنا بالمسير إلى روما”. وما أشبه بغداد اليوم بروما البارحة، وهناك إمكانية حقيقية للبعض وعلى غرار موسوليني في قيادة مئات الآلاف من البشر لتحقيق مشروع ديني سياسي، أو من قبل ساسة ينظرون إلى السلطة من خلال الديمقراطية الكسيحة رافعين شعار “ما ننطيها” الذي ينسف كل مبادئ الديموقراطية وأسسها ليمضي قدما في مشروعه الفاشي.

إرادة الشعب هي ليست الوسيلة للحكم وإنما الوسيلة هي القوّة وهي التي تفرض القانون… موسوليني.

7