حتى لا تتحول محاربة الجريمة الإلكترونية إلى أداة قمع بيد الحكومات

في ظل تزايد التهديدات الإلكترونية تستعد الأمم المتحدة لاعتماد معاهدة جديدة لمكافحة الجرائم الإلكترونية. ورغم أن هذه المعاهدة تهدف إلى تعزيز التعاون الدولي في مواجهة الجرائم السيبرانية، إلا أنها تواجه انتقادات واسعة من منتقدين عبروا عن مخاوفهم من أن تصبح المعاهدة أداة للقمع الحكومي.
تلاقي معاهدة الأمم المتحدة الجديدة لمكافحة الجرائم الإلكترونية، التي من المنتظر أن تعتمدها الجمعية العامة للأمم المتحدة خلال السنة الحالية، استنكار أكثر من 100 ناشط حقوقي ومنظمات المجتمع المدني باعتبارها أداة محتملة للقمع الحكومي.
بعد اعتماد المعاهدة من لجنة مخصصة تابعة للأمم المتحدة، تُرفع إلى الجمعية العامة التي تضم 193 عضواً للموافقة النهائية.
وقالت ديبورا براون، القائمة بأعمال مدير التكنولوجيا والحقوق والتحقيقات في هيومن رايتس ووتش، لخدمة إنتر برس إن على الحكومات بعد ذلك التوقيع على المعاهدة والتصديق عليها. وأضافت: “نتوقع أن تواجه البُلْدان قدراً كبيراً من التدقيق والمقاومة من المشرعين والجمهور مع تحركها للتصديق على المعاهدة، بسبب التهديد الذي تشكله على حقوق الإنسان”.
وأشارت إلى أن المعاهدة ستوسع المراقبة الحكومية وتخلق أداة غير مسبوقة للتعاون عبر الحدود بين الحكومات بشأن مجموعة واسعة من الجرائم، دون ضمانات كافية لحماية المواطنين من إساءة استخدام السلطة. وتابعت: “من المتوقع كذلك أن تنطلق المفاوضات بشأن بروتوكول يرافق المعاهدة لمعالجة جرائم إضافية وتوسيع نطاق البنود المحددة. نحث الحكومات على رفض معاهدة الجرائم الإلكترونية التي تقوض الحقوق”.
تدرك الأمم المتحدة مخاطر الجرائم الإلكترونية المتزايدة، وهي تقول إن الدول الأعضاء شرعت في صياغة معاهدة دولية ملزمة قانوناً لمواجهة هذا التهديد. ولا تزال المفاوضات جارية بعد مرور خمس سنوات حيث لم تتمكن الأطراف من التوصل إلى توافق مقبول في الآراء. ولم يُختتم الاجتماع الأخير لأعضاء اللجنة في فبراير بمشروع متفق عليه، حيث لم تتمكن البلدان من الاتفاق على صياغة توازن بين ضمانات حقوق الإنسان والقضايا الأمنية.
كانت أكسس ناو من المنظمات غير الحكومية المشاركة في المفاوضات. وهي تدافع عن حقوق الأفراد والمجتمعات الرقمية المهددة في جميع أنحاء العالم. وتحدث رامان جيت سينغ شيما، كبير المستشارين الدوليين ومدير سياسة آسيا والمحيط الهادئ في أكسس ناو، إلى كونور لينون من منصة أخبار الأمم المتحدة، لشرح مخاوف منظمته، بينما كانت جلسة فبراير قائمة في مقر الأمم المتحدة.
وقال شيما: “يجب أن تتصدى هذه المعاهدة للجرائم السيبرانية الأساسية، أي تلك التي لا يمكن اقترافها إلا من خلال الكمبيوتر، والتي تسمى أحياناً جرائم تعتمد على الإنترنت، مثل اختراق أنظمة الكمبيوتر، وتقويض أمن الشبكات”. ويبرز وجوب تجريم الدول لهذه الجرائم، مع وضع أحكام واضحة تمكن الحكومات في جميع أنحاء العالم من التعاون في مواجهتها.
وقال شيما: “إذا جعلت نطاق المعاهدة واسعاً، فقد يشمل جرائم سياسية. فإذا أدلى شخص ما بتعليق حول رئيس حكومة، أو رئيس دولة، على سبيل المثال، فقد ينتهي الأمر بمعاقبته بموجب قانون الجرائم الإلكترونية. نحتاج إلى وضع معايير قوية لحقوق الإنسان فيما يتعلق بوكالات إنفاذ القانون التي تتعاون بشأن هذه المعاهدة لأن ذلك يوفر الثقة في العملية”.
وحذر أيضاً من أنه إذا كانت المعاهدة واسعة النطاق دون ضمانات، فقد ينتهي الأمر بالطعن في كل طلب للتعاون، من المدافعين عن حقوق الإنسان والمجتمعات المتأثرة، وحتى الحكومات نفسها.
في نفس الوقت، يشير البيان المشترك لمنظمات المجتمع المدني إلى أوجه قصور خطيرة في مسودة المعاهدة الحالية، التي تهدد حرية التعبير والخصوصية وحقوق الإنسان الأخرى. ويشمل مشروع الاتفاقية أحكاماً جنائية فضفاضة لا تمس بعض القضايا ولا تعدّ ضمانات كافية لحقوق الإنسان. وينص على تبادل مفرط للمعلومات عبر الحدود ومتطلبات التعاون، مما قد يسهل المراقبة الاقتحامية.
وقال شيما: “أسيء استخدام أنظمة الجرائم الإلكترونية في جميع أنحاء العالم لاستهداف المدافعين عن حقوق الإنسان والصحفيين والباحثين الأمنيين والمثليات والمثليين ومزدوجي الميل الجنسي ومغايري الهوية الجنسانية، ومراقبتهم في انتهاك صارخ لحقوق الإنسان”.
كما تحذر منظمات المجتمع المدني من اتساع نطاق مشروع الاتفاقية الذي يهدد بتقويض أهدافها الخاصة عبر إضعاف الجهود المبذولة للتصدي للجرائم الإلكترونية الفعلية مع الفشل في حماية البحوث الأمنية المشروعة، مما يقوض أمن المستخدمين على الإنترنت.
وقال شيما: “من المؤسف إساءة استخدام قوانين الجرائم الإلكترونية الوطنية والإقليمية في كثير من الأحيان لاستهداف الصحفيين والباحثين الأمنيين بشكل غير عادل، وقمع المعارضة والمبلغين عن المخالفات، وتعريض المدافعين عن حقوق الإنسان للخطر، والحد من حرية التعبير، وتبرير تدابير المراقبة غير الضرورية وغير المتناسبة التي تتخذها الدولة”.
وأكدت مجموعات المجتمع المدني وأصحاب المصلحة الآخرون باستمرار، طوال المفاوضات التي امتدت على مدى السنتين المنقضيتين، على أن مكافحة الجريمة السيبرانية يجب ألا تأتي على حساب حقوق الإنسان والمساواة بين الجنسين وكرامة الأشخاص الذين ستتأثر حياتهم بهذه الاتفاقية.
ذكرت تيرانا حسن، المديرة التنفيذية لهيومن رايتس ووتش، في مقال افتتاحي في مجلة فورين بوليسي، إن المعاهدة الجديدة، التي تدعمها روسيا، تهدف إلى خنق المعارضة. وتشير إلى أن الجرائم الإلكترونية (القرصنة الخبيثة لشبكات الكمبيوتر والأنظمة والبيانات) تهدد حقوق الناس وسبل عيشهم، وأن الحكومات تحتاج إلى التكاتف للتصدي لها. لكن معاهدة الجرائم الإلكترونية المعروضة على الأمم المتحدة قد تسهل القمع الحكومي بدلاً من ذلك.
يمكن أن تخلق المعاهدة أداة غير مسبوقة للتعاون عبر الحدود فيما يتعلق بمجموعة واسعة من الجرائم، دون ضمانات كافية لحماية الناس من إساءة استخدام السلطة من خلال توسيع المراقبة الحكومية للتحقيق في الجرائم.
قالت حسن: “ليس سراً أن روسيا كانت محركة هذه المعاهدة. ووسعت الحكومة الروسية خلال السنوات الأخيرة القوانين واللوائح التي تشدد السيطرة على بنية الإنترنت التحتية، والمحتوى عبر الشبكة، وخصوصية الاتصالات في مساعيها للسيطرة على المعارضة”.
لكن روسيا لا تحتكر إساءة استخدام قوانين الجرائم الإلكترونية. وأشارت حسن إلى أن هيومن رايتس ووتش وثّقت أن العديد من الحكومات أدخلت قوانين للجرائم الإلكترونية تتجاوز التصدي للهجمات الخبيثة على أنظمة الكمبيوتر لاستهداف الأشخاص الذين يختلفون معها وتقويض الحق في حرية التعبير والخصوصية.
أدانت محكمة فلبينية ماريا ريسا، الصحفية الحائزة على جائزة نوبل والمؤسسة والمحررة التنفيذية للموقع الإخباري رابلر، بتهمة “التشهير الإلكتروني” بموجب قانون منع الجرائم الإلكترونية في يونيو 2020. واستغلت الحكومة القانون ضد الصحفيين وكتاب الأعمدة ومنتقدي الحكومة ومستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي العاديين، بمن فيهم والدن بيلو، الناشط الاجتماعي التقدمي البارز والأكاديمي والعضو السابق في مجلس النواب الفلبيني.
استغلت بلدان في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا القوانين التي تجرم السلوك الجنسي المثلي، واستخدمت قوانين الجرائم الإلكترونية لمقاضاة التعبير على الإنترنت.
واستندت السلطات قانون الجرائم الإلكترونية لملاحقة الصحفيين والمحامين والطلاب وغيرهم من المنتقدين واحتجازهم أو اتهامهم أو إبقائهم قيد التحقيق بسبب تصريحاتهم العلنية على الإنترنت أو في وسائل الإعلام. وتم اعتقال ومضايقة عشرات الأشخاص الذين شاركوا في الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين أو شاركوا في المناصرة عبر الإنترنت منذ أكتوبر 2023، ووجّهت اتهامات إلى بعضهم بموجب قانون الجرائم الإلكترونية الجديد الذي انتُقد على نطاق واسع.
وقالت حسن إن المعاهدة تعاني من ثلاث مشاكل رئيسية، وهي نطاقها الواسع، وافتقارها إلى ضمانات حقوق الإنسان، والمخاطر التي تشكلها على حقوق الطفل. وأضافت: “بدلاً من قصر المعاهدة على معالجة الجرائم المرتكبة ضد أنظمة الكمبيوتر والشبكات والبيانات (القرصنة أو برامج الفدية) يعرّف عنوان المعاهدة الجريمة الإلكترونية بطريقة تشمل أي جريمة ترتكب باستخدام أنظمة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات”.
كما يستعد المفاوضون للموافقة على الصياغة الفورية لبروتوكول للمعاهدة لمعالجة “الجرائم الجنائية الإضافية حسب الاقتضاء”. لذلك، يمكن للحكومات الإشارة إلى عنوان هذه المعاهدة وربما بروتوكولها لتبرير إنفاذ القوانين القمعية عندما تمرر قوانين محلية تجرم أي نشاط يستخدم الإنترنت بأي شكل من الأشكال للتخطيط لجريمة أو ارتكابها أو تنفيذها.
الأمم المتحدة تدرك مخاطر الجرائم الإلكترونية المتزايدة، وهي تقول إن الدول الأعضاء شرعت في صياغة معاهدة دولية ملزمة قانوناً لمواجهة هذا التهديد
تتطلب المعاهدة، بالإضافة إلى التعريف الواسع للجريمة الإلكترونية، من الحكومات مراقبة الأشخاص وتسليم بياناتهم إلى جهات إنفاذ القانون الأجنبية عند الطلب إذا ادعت الحكومة الطالبة أنهم ارتكبوا أي “جريمة خطيرة” بموجب القانون الوطني، وهي تُعرّف بأنها جريمة يعاقب عليها بالسجن لمدة أربع سنوات أو أكثر.
ويشمل ذلك السلوك المحمي بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان، لكن بعض الدول تجرمه، مثل السلوك الجنسي المثلي، أو انتقاد الحكومة، أو التحقيقات الصحفية، أو المشاركة في مظاهرة، أو الإبلاغ عن المخالفات.
ويمكن أن تجبر هذه المعاهدة الحكومات الأخرى على التواطؤ في مقاضاة مثل هذه “الجرائم”.
وذكّرت حسن بأن الافتقار إلى ضمانات حقوق الإنسان يبقى “أمرًا مقلقًا… يجب أن يقلقنا جميعًا”.