مصر تجاوزت الحاجة إلى الحوار الوطني

من مصلحة الحكومة والمعارضة طي صفحة الحوار الوطني بكل ما حملته من نتائج، والبناء على مخرجاته المهمة.
الأحد 2024/07/28
المصريون يبحثون عما وراء الحوار

تحول الحوار الوطني بين الحكومة وقوى معارضة في مصر إلى عملية سياسية مطلوبة دورانها بلا توقف. فكلما واجهت عقبات يتم مدها بجرعة أوكسجين تجعلها مستمرة. وقد مضى أكثر من عامين على دعوة الرئيس عبدالفتاح السيسي إلى هذا الحوار ولا يزال مستمرا. فبعد انتهاء جولته الأولى قبل الانتخابات الرئاسية في ديسمبر الماضي وما حققته من مخرجات متفاوتة، بدأت جولة ثانية له مؤخرا، ركزت بعض عناوينها على ملفات جذابة، مثل مناقشة قوانين الحبس الاحتياطي.

لم تعد مصر في حاجة إلى حوار وطني لتقوم به أو جلسات من هذا النوع تهتم بالحبس على اعتبار أنه من متطلبات السياسة العاجلة، فكل القضايا الهامة تمت مناقشتها، ولدى السلطة المصرية دراية كافية بالإصلاحات المرجوّة من قبل المعارضة، والتي فقد عدد كبير من الشخصيات والأحزاب المنخرطة في الحوار شغفهم به، لأن رؤيتهم وصلت ومطالبهم وضعت على طاولة الرئيس السيسي عقب انتهاء الجولة الأولى.

ولا توجد حاجة للإحراج المصاحب لاعتقالات رافقت جلسة حوار عقدت أخيرا عن الحبس الاحتياطي. وبدلا من أن ينصبّ الحديث عن نوايا الحكومة وأهدافها بشأن إعادة النظر في القوانين المقيدة للحريات، وانشغلت بعض وسائل الإعلام الأجنبية بإلقاء القبض على بضعة أشخاص جدد، على الرغم من إطلاق سراح العشرات في الوقت نفسه، ما يعني أن هذا الملف لا يحقق أغراضه السياسية، وربما يدفع قوى معارضة إلى مراجعة موقفها من المشاركة في حوار ممتد وبلا أفق زمني له، وحوّله بعض المشاركين فيه إلى معزوفة سياسية للإيحاء باتساع نطاق الحريات.

مصر تجاوزت الحاجة إلى الحوار الوطني، فليس هناك خصومة ثأرية بين السلطة والمعارضة في الداخل، والخلافات بين الجانبين تمكن إذابتها بالمزيد من الإجراءات الدالة على الانفتاح

ولا توجد شكوك في رغبة السلطة بإدخال إصلاحات سياسية في الوقت الراهن، لكنها لن تأتي عبر القناة المسماة بالحوار الوطني، فالوصول إليها سريعا يحتاج إلى طريق مستقيم ومباشر تسلكه الحكومة، وإذا كانت فكرة الحوار بدت مقبولة سياسيا عند إطلاقها وكسرت واحدة من المحرمات والانطباعات السلبية، فاليوم جرى تجاوز ذلك، والعزف على هذه السيمفونية بإلحاح قد يضر أكثر مما ينفع النظام المصري، خاصة مع تحول بعض جلسات الحوار إلى “مكلمة” أو مناقشة بديهيات تجاوزها الزمن.

تجاوزت السلطة المصرية الشكليات، ولديها ما هو أهم من تكرار الحديث عن أجندة الحوار ومفرداته، فالأمور السياسية حسمت الكثير من مكوناتها، والأزمة الاقتصادية محددات علاجها معروفة، وكذلك الهموم الاجتماعية والثقافية والإعلامية.

وإذا أرادت الحكومة أن تحقق اختراقا ملموسا عليها أن تتبنى فورا ما يمكن أن يساعد على تجاوز العراقيل في كل منها، فوجود بعض قوى المعارضة ورموزها كنوع من المشاركة الوجدانية والإيحاء بتفكيك الأزمات، أو على سبيل الديكور السياسي، لن يضيف شيئا معنويا للسلطة أو يجعل للمعارضة قوة مادية حقيقية.

وليس هناك من يعير اهتماما كبيرا بما يجري في جلسات الحوار الآن، في خضم تحديات إقليمية وعرة تواجه الدولة المصرية، ومشاكل اقتصادية تؤرق شريحة من المواطنين، وتعلم الحكومة الآليات الواجبة للتعامل معهما، وإذا كانت تريد إجماعا وطنيا فيهما، لا يوجد خلاف حول ضرورة تجاوز التهديدات الخارجية وإيجاد حلول ناجعة للمشكلات الاقتصادية الداخلية، ولم يبق في الغرب من يبدي اهتماما بالمستوى الديمقراطي الذي وصلت إليه مصر، أو يحرص على متابعة الحوار الوطني.

حقق الحوار أهدافه السياسية القريبة منذ فترة، ويجب تحقيق تقدم في أهدافه البعيدة المتعلقة بقطع شوط في ملف الإصلاحات العامة، والتي لا تنكر الحكومة الجديدة أنه على أجندة أولوياتها، وتملك صورة كاملة حول ما يمكن اتخاذه من إجراءات عملية في القضايا الشائكة، قبل أن تتحول جلسات الحوار إلى عمل روتيني تتم الدعوة إليه كلما كانت هناك حاجة عاجلة إليه.

أدى من شاركوا في الحوار ومن قاطعوه ما عليهم من دور في طرح مجموعة مهمة من القضايا كان من الصعب التطرق إليها في أوقات سابقة، وتمكن هؤلاء من طرح ملفات حيوية بدرجة عالية من الشفافية، وأثبتوا عدم وجود ممانعة أو فيتو على أيّ من الموضوعات التي تهم المصريين.

سمعنا آراء جريئة خرجت من قلب مؤيدي الحكومة في الحوار الوطني، ورأينا شخصيات راج أنها ممنوعة من المشاركة السياسية، ما يحسب للسلطة التي أثبتت قدرتها على استيعاب جميع الأطياف الوطنية، وامتلاكها مرونة تساعدها على عبور الكثير من المطبات، ولذلك لا حاجة إلى مواصلة حوار بالصورة التي أصبح عليها، إذ يشير إلى أن الشكوك مستمرة، والثقة بين النظام والمعارضة مسكونة بهواجس يصعب تخطيها.

من مصلحة الطرفين طي صفحة الحوار الوطني بكل ما حملته من نتائج، والبناء على مخرجاته المهمة، والتي عالجت الكثير من القضايا الرئيسية بصراحة، ووضعت النقاط فوق الحروف في عدد معتبر لها، وتعامل معها الرئيس السيسي بجدية ملحوظة عندما حوّلها إلى المؤسسات المعنية في الدولة، وما تبقى قد يكون رتوشا يمكن الانتهاء منها في جلسة أو اثنتين، فجعل الحوار معلقا أو استدعاؤه على فترات زمنية متقاربة أو متباعدة، يترك مخاوف من أنه قد تحول إلى عملية سياسية مطلوبة في حد ذاتها.

مصر تجاوزت الحاجة إلى الحوار الوطني، فليس هناك خصومة ثأرية بين السلطة والمعارضة في الداخل، والخلافات بين الجانبين تمكن إذابتها بالمزيد من الإجراءات الدالة على الانفتاح

من شاركوا في الحوار أو قاطعوه لم ينكروا أهميته، حيث أكد أن السلطة مستعدة لمناقشة جميع القضايا بعقل وقلب مفتوحين، وأن المخاوف مرتبطة بالتوقيتات وما تحمله أحيانا من تهديدات تتطلب قدرا من الصرامة.

غابت المواقف القطعية من رفض الإصلاحات وما حولها، فالأجواء العامة في الداخل والتطورات المتلاحقة في الخارج هي التي تلعب دورا مهما في بعض القضايا الحيوية، في مقدمتها الحدود التي يمكن القبول بها للمعارضة والحركة المسموحة لها، وسط وجود بعض العناصر التي لا تزال تستهدف كيان الدولة ذاتها.

غيّر الحوار في قناعات البعض من السلطة عندما وجدها تتقبل آراء من شخصيات معارضة، وغيّر أكثر في شريحة اعتقدت صعوبة الاقتراب من بعض الملفات المسكوت عنها، وفي الحالتين لم يعد هناك ما تمكن إضافته، إذ باتت السلطة على قناعة تامة بالحاجة إلى تصورات جديدة، في السياسة والاقتصاد والإعلام والثقافة، ولم تعد عناوينها مجهولة لأحد فيها، وحان وقت تبني سياسات تعزز الرغبة للتغيير في مناح هُلكت بحثا طوال جلسات الحوار، وتمت مناقشة الكثير من تفاصيلها.

تجاوزت مصر الحاجة إلى الحوار الوطني، فليس هناك خصومة ثأرية بين السلطة والمعارضة في الداخل، والخلافات بين الجانبين تمكن إذابتها بالمزيد من الإجراءات الدالة على الانفتاح، والخطوات التي تعزز الإصلاح، والخلافات الجوهرية العاجلة قاصرة على النواحي الاجتماعية والاقتصادية أكثر من السياسية، وهي حلقة يمكن تجاوزها بعلاج ما ظهر من خلل الفترة الماضية، وهو ما تبدو الحكومة مستعدة له.

4