كيف أصبح الغرب معاديا للسامية

الحوادث المعادية للسامية في عام 2023 تخطت إلى حد كبير أرقام 2022 في معظم البلدان التي تضم مجموعات يهودية كبيرة، وبينها الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا. وتعرف معاداة السامية على أنها السلوك العدائي تجاه اليهود لمجرد أنهم يهود وقد يتخذ شكل التعاليم الدينية التي تعلن دونية اليهود أو الجهود السياسية لعزلهم أو اضطهادهم أو إيذائهم بطريقة أخرى.
لعب اليهود دورا رئيسيا في تاريخ الغرب والبحر المتوسط لمدة 3 ألاف عام. ومنذ ظهور المسيحية قبل ألفي عام والإسلام بعد ستة قرون منها، غالبا ما وُصف اليهود بأنهم “حضارة رابعة في العصور الوسطى متأصلة في ثلاث حضارات أخرى: الإسلام والبيزنطة وأوروبا المسيحية اللاتينية”.
وسرد إيفان جي ماركوس في كتابه الثري قصة اليهود وتشكيل أوروبا المسيحية، أي الغرب. ويعدّ هذا التحليل لمعاداة السامية الحديثة مساهمة كبيرة في محادثة أكاديمية مستمرة حول هذا الاتجاه في العصور الوسطى و”الحديثة”.
ويحفّز الكتاب التفكير، وهو موضع ترحيب أكبر لكون معاداة السامية وصمة عار لا تمحى من تاريخ أوروبا المسيحية اللاتينية التي استمرت لألف عام، خلال القرون التي تلت الطرد الدموي لليهود في القرن الثالث عشر.
ونعلم جميعا أن معاداة السامية بلغت ذروتها في الهولوكوست الذي نفذه أوروبيون غالبا ما صوروا أنهم مسيحيون. وغض زعيم الكنيسة الكاثوليكية في الفاتيكان بصره عما كان يحدث، بعد المذابح الأرمنية التي ارتكبها الأتراك قبل عقدين، والتي شكّلت الإبادة الجماعية الثانية في القرن العشرين.
وكان الهولوكوست سببا مباشر في قيام دولة إسرائيل في 1948. وأبرزت الأحداث الأخيرة أن أحفاد الذين عانوا من عنف شديد خلال الحرب العالمية الثانية لا يخشون إلحاق عنف هائل بأشخاص لا علاقة لهم بما حدث في أوروبا بين عامي 1940 و1945.
وكتب إيفان جي ماركوس «كانت المواجهة اليهودية - المسيحية ترتكز على صدام هيكلي عميق بين ثقافتين دينيتين مرتبطتين، تعتقد كل منهما أنها المختارة وترى الأخرى مستبعدة من النعمة الإلهية».
وأضاف “نظرا إلى مختلف ديناميكيات القوة، يعني هذا أن القوة ستكون خيارا مسيحيا، لكن لليهود موارد أيضا، وإن كانت محدودة وغير فعالة في الكثير من الأحيان. كان اليهود حازمين، وليسوا سلبيين، حتى دون أن يتمتعوا بخيار القوة القسرية”.
وخلقت أوروبا في العصور الوسطى ما أسماه المؤلف “اليهودي المُتخيَّل”. وكان اليهود بالطبع حازمين في مواجهة ما اعتبروه الشرك المسيحي. ويتحدى ماركوس الرأي القائل بأن يهود العصور الوسطى كانوا ضحايا سلبيين. واتخذ الحزم اليهودي بعض الأشكال المثيرة للاهتمام ولا سيما إظهار عدم الاحترام للرموز المسيحية في زمن الحملة الصليبية الأولى (1096-1099). ووُضعت التماثيل المسيحية في المراحيض. وبُنيت المعابد اليهودية أعلى من الكنائس. وكتب اليهود عبارات مسيئة عن المسيحية باللغة العبرية في العقود التجارية مع معاصريهم الذين يقرؤون اللاتينية.
وتردد صدى فكرة كون اليهود متعطشين للدماء على مر العصور. وبدأ تشهير الدم الأصلي بعد الحملة الصليبية الأولى حيث اجتاحت موجة من الهيجان الديني فرنسا وإنجلترا وألمانيا.
وقتل اليهود أطفالهم في راينلاند لمنع تحولهم القسري. وقيل إن اليهود سمموا الآبار لنشر الطاعون خلال الموت الأسود في القرن الرابع عشر. وانتشرت أسطورة التشهير بالدم في إنجلترا في القرن 12 مع ادعاءات بأن اليهود كانوا يقتلون الأطفال المسيحيين في إعادة تمثيل لصلب يسوع.
المواجهة اليهودية - المسيحية صدام بين ثقافتين دينيتين تعتقد كل منهما أنها المختارة وترى الأخرى مستبعدة من النعمة الإلهية
وكان الاعتقاد السائد على نطاق واسع هو أن اليهود كانوا “قتلة المسيح” ومسؤولين بشكل جماعي عن القتل. وأدانت الكنيسة التشهير بالدم والهجمات على اليهود لكنها فشلت في منع المذابح والطرد. وازدهر اليهود بموافقة ملكية حتى طردوا من إنجلترا في 1290 وفرنسا في 1306، ووجد فيليب الرابع أنه من المناسب سرقة ممتلكاتهم والتراجع عن قروضه في ظروف الأزمة المالية.
ويركز ماركوس اهتمامه على اليهود الأشكناز في إنجلترا وألمانيا وشمال فرنسا ويؤكد على الروابط بين معاداة السامية الحديثة والعصور الوسطى. واعتقدت كل مجموعة أن الأخرى يجب أن تكون تابعة ونظر المسيحيون إلى اليهودي على أنه “عدو داخلي” ذو هوية غير قابلة للتغيير. ونشأت الصور النمطية المعادية للسامية التي استمرت قرونا، وبرز فيها تشويه الصورة الجسدية والجشع المرابي بشكل متواصل.
واستمر هذا “اليهودي المتخيل” الذي تحدث عنه المؤلف حتى بعد قتل اليهود في البلدان المذكورة أعلاه بوحشية أو طردهم شرقا في أوروبا. وكانت فكرة اليهود عدوا داخليا نتاج الحملة الصليبية الأولى إلى حد كبير.
ويمكن العثور على فكرة “اليهودي المتخيل” في أدب العصور الوسطى. وكان اليهودي شايلوك في مسرحية تاجر البندقية التي ألّفها شكسبير من الشخصية الأكثر شهرة. ويمكن العثور على العديد من الأمثلة الأخرى في الأدب الغربي على مدى القرون التالية. وبقي اليهودي في المجتمعات المسيحية الآخر المُتخيَّل. ويقدم هذا الكتاب قراءة واعية فيما يتعلق بسلوك أسلافنا المسيحيين واليهود في العصور الوسطى، حيث لم يوجد أي انقطاع بين معاداة اليهودية ما قبل الحداثة ومعاداة السامية الحديثة.