مشكلتي مع حزب التحرير عامة وليست شخصية

تبرز الشتائم التي وجهها حزب التحرير ردا على مقال يكشف أساليبه في المتاجرة بقضايا الأمة الأيديولوجية الخطابية العنيفة التي يتبناها الحزب رغم مساعيه لإظهار عكس ذلك.
القاهرة - نشر ما يطلق على نفسه "المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية مصر" على الموقع الرسمي للحزب بيانًا بعنوان "حزب التحرير رائد لا يكذب أمته ولا يستغل آلامها ولا يتاجر بها بل يحمل لها مشروعًا حقيقيًا لنهضتها على أساس الإسلام"، ردًا على مقال كتبته بجريدة "العرب" نشر الثلاثاء 11 يونيو الجاري بعنوان "حزب التحرير يجرب حظوظه بعد إخفاقات داعش والإخوان".
وليست هذه المرة الأولى التي يرد الحزب المذكور على مقال لي ببيان وكأن مقالاتي التي ترصد تطور نشاطات وتحولات تيار الإسلام السياسي حول العالم سوف تعوق الحزب عن تأسيس خلافته العالمية المزعومة، ففي العام 2021 رد أيضًا ببيان عنوانه “مشكلة هشام النجار مع حزب التحرير” على مقال لي نشر أيضا بجريدة “العرب” في 7 نوفمبر 2021 عنوانه “الفضاء الرقمي ساحة بديلة لحزب التحرير المحظور في إندونيسيا”.
ويبدو الارتباك واضحا على أداء حزب من المفترض أن له أفرعا في الكثير من دول العالم وأتباع بالملايين وتمويل هائل ينفيه، زاعمًا أن تمويله من اشتراكات أعضائه، وقد سبقته جماعة الإخوان في ذلك ثم تبين أنها تعوم على ثروة خفية ومصادر تمويل لم تكن تخطر على بال أحد، والسؤال هنا: إذا كان هذا الكيان فوق مستوى الشبهات ولا يتسلل إلى بعض المؤسسات ويتاجر بآلام الأمة وقضاياها ويعمل بشكل شرعي تحت أعين الأجهزة الرقابية، فلماذا حظرته حكومات، ولماذا الآلاف من ناشطيه قيد الحبس، ولماذا يناور ويلجأ للعمل تحت عناوين أخرى في ألمانيا وغيرها؟.
والسؤال الأهم، كيف يدعي المنتسبون إليه أنهم “إسلاميون” ويستخدمون أوصافا غير لائقة ضد المختلفين معهم، وشتائم في الرد على مقال مبني على رصد موثق بالشواهد لتطورات حضور حزبهم في ساحات عديدة في العالم، مقرونًا بانتقادات موضوعية لبعض ممارساته وتصوراته؟.
وإذا كانت تلك طريقة التعامل مع مقال بجريدة، فكيف الحال بشأن التعامل مع مشكلات الأمة حينما يصلون إلى مرحلة التمكين، وإذا كانوا لا يطيقون نقدا موضوعيا من صحافي، فكيف سيتعاملون مع المعارضين السياسيين والمنافسين الحزبيين والمنتقدين لمساوئ تجربتهم في السلطة عندما يصيروا حاكمين، هل تلك أخلاقيات وأساليب تصرف أصحاب مشروع لحكم العالم بأسره على أساس إسلامي، أم هي ملامح تجربة شمولية تسلطية جديدة تحت شعارات الحكم باسم الرب؟.
وضمن بيانه الذي فضح ضحالته وتهافت تصوراته يتهمني مسؤول المكتب الإعلامي لحزب التحرير بما يطلقون عليها (ولاية مصر)، هكذا حولوا الأوطان إلى ولايات، بدون ذكر اسم لكاتبه، كأننا نتعامل مع أشباح، بأنني (واحد من المضبوعين بثقافة الغرب الكافر والمروجين لها، والذين تقلقهم الدعوة لإقامة الخلافة التي تعني زوال الرأسمالية وهيمنة الغرب، وما يعنيه ذلك من ضياع ما يحصلون عليه من أموال ومكانة وحظوة عند الأنظمة التي يسبحون بحمدها).
ويبدو أن لديَّ مشكلة حقيقية مع حزب مُرتعب من كشف مسالب مناهجه وممارساته، يروج لتوصيف هزلي لأوضاع المسلمين والعرب ويطرح اسمه ومشروعه كمنقذين للأمة الإسلامية التي تتعرض لمحاولات غربنتها وإخضاعها وفق نسخة إسلامية ترعاها الحكومات العميلة، فيما يذهب هو إلى أن الحل في إقامة دولة الخلافة بقيادة زعيم واحد، وفقًا لإحدى السرديات الرئيسية للحزب.
وما يدل على سذاجة هذا التصور أن ما جرى منذ عشرينات القرن الماضي عكس هذا تمامًا، فالغرب كي يُخضع المشرق العربي لنفوذه الحضاري أعاق عصرنته عبر الإسهام في تشكيل كيانات منفصلة غير قابلة لأن تكون عناصر إيجابية داخل الكيان الحضاري والثقافي العام لأمة عربية موحدة قادرة على النهوض بمشروع تحديث شرقي مستقل، ولإرباك المشاريع العربية دُفع بكيانات مؤدلجة من شأنها ضرب أي وحدة عربية وأي تجربة نهضة حقيقية.
يبدو أن لديَّ مشكلة حقيقية مع حزب مُرتعب من كشف مسالب مناهجه وممارساته
وتحرك الغرب مع النجاح المحدود في مصر لتجربة سياسية تعددية ينقصها الاستقلال في الثلاثينات والأربعينات من القرن المنصرم، وازدادت ضراوة تدخله عندما تولى رئيس مصري بعد ألفي عام وبواكير صناعة وطنية وإصلاح زراعي ومشروع تعليم مجاني بعد ثورة يوليو 1952، ما هدد بمشروع نهضة عربي حقيقي مستقل عن الغرب، يرتكن لمراجعات وأدبيات النخبة الفكرية العربية، لذلك لجأ الغرب لضرب هذه المشاريع بكيانات مؤدلجة بحس طائفي تزعم زورًا مواجهة العلمانية والتغريب.
وجيل النخبة العربية الذي سافر بداية من العشرينات ليتعلم في الغرب وعاد يروج للقيم الغربية توصل إلى أن هذا الزيف لا يخدم سوى مصالح الغرب وأن النهضة الشرقية لا تتحقق سوى بكيان موحد ينطلق مشروعه الفكري والحضاري من الجذور الوطنية وأصول التراث الإسلامي والعربي والروح الشرقية مع اقتباس وسائل النهضة التقنية الحديثة من الغرب، بما مثل استفاقة أفزعت مفكري الغرب وصناع قراره، فحاول الغرب ضربها بتمويل ودعم مشاريع الجمود الديني والسلفي ورافعي راية الخلافة والحكم الديني، وكلما توارى مشروع ولد آخر.
حزب التحرير أهدر طاقات الأمة وهو مرشح لإهدار المزيد في إطار تجريبه لنسخة تقليدية غير مبدعة
والصراع الحقيقي ليس بين إسلام وعلمانية، ولا بين إسلام وغرب (كما يروج حزب التحرير) بل بين نسختين من الإسلام، إحداهما حضارية تقدمية، والأخرى شمولية تسعى لوراثة المشاريع السلطوية الأممية في الغرب والشرق، فالعالم مستهدف من قبل مشاريع الإسلام السياسي وليس الشرق وحده، وهو صراع بين إسلام العصر الذهبي الذي صنع أعظم حضارة للمسلمين والعرب وإسلام عصر الانحطاط والتخلف والصراعات الدينية، الذي يستدعيه حزب التحرير بعد جماعة الإخوان وزعماؤها ليظل المسلمون في مواجهة دينية دائمة مع الغرب.
ويكمن الحل في أن يبذل العرب والغربيون الجهد الذي يرقى للتمكين لتصورات دينية تنويرية منسجمة ومتشاركة ومتعايشة، وهو السبيل الناجع لحظر حقيقي وفعال لنسخة إسلامية مزورة تعادي البشرية وتخدم المصالح التكتيكية الأنانية النفعية للغرب لكنها ترتد ضده، وهي التي تدعو للإقصاء لأهداف سياسية وتوسعية كالتي وضعها المنظر الإخواني سيد قطب في تأسيسه النظري لمنهج خلافة الإخوان الكونية، والتي صاغها تقي الدين النبهاني في كتابه (مفاهيم حزب التحرير) تأسيسًا لخلافة الحزب العالمية.
وأهدر حزب التحرير طاقات ووقت وثروات الأمة وهو مرشح لإهدار المزيد في إطار تجريبه لنسخة تقليدية غير مبدعة بدون أي رؤى تجديدية ستدور من نفس بداية الإخوان وتنتهي عند نقطة فشلها وتسببها في مزيد من تفكيك الأوطان ونشر الفوضى والفتن في ربوعها خلف العنوان الذي سبب الكوارث للمسلمين والعرب ولايزال، وهو عنوان الخلافة من حسن البنا والنبهاني مرورًا بالترابي والبشير والخميني، وصولًا إلى بن لادن والبغدادي ومرسي والغنوشي.
ويتأسس الخلاص والتحرير الحقيقي على رؤى مفكري النهضة وفقًا للتصور الذي صاغه طه حسين في مصر، بأن نمحو من أنفسنا فكرة أن في الأرض شعوبًا خُلقت لتسودنا أو أن في الأرض شعوبًا خُلقت لنسودها نحن، وهذا لا يتحقق بالأمنيات إنما أن نكون أقوياء بالجيش والعلم والثقافة والثروة، ونمتلك ما يمتلكه الأوروبيون من قوة لنكون ندًا لهم وشركاء في الحضارة.