مفرمة اللحم مستمرة في أوكرانيا

آخر التقارير الإعلامية التي نشرتها هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” يتحدث عن 50 ألف جندي روسي قضوا منذ بداية الحرب على أوكرانيا، ويستند التقرير إلى أرقام وإحصائيات مفتوحة المصدر من التقارير الرسمية والصحف ووسائل التواصل الاجتماعي في روسيا، ويشير إلى أن الرقم الإجمالي للوفيات في صفوف المقاتلين الروس ربما قد يكون أعلى من ذلك بكثير على اعتبار أن الإحصائيات لم تشمل مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك اللتين وقعتا تحت قبضة الروس، لكن بعد معارك ضارية من المؤكد أنها أوقعت أعدادا كبيرة في صفوف الجانبين.
المؤكد أن الروس الرافضين إلى حد الآن تقديم أرقام رسمية دقيقة بشأن خسائرهم منذ عام 2022 يصفون هذا التقرير على أنه يندرج ضمن البروباغندا المغرضة التي تسعى إلى ضرب انتصاراتهم والتشويش على تقدمهم الميداني، إلا أنه وبالنظر إلى طول مدة الحرب وضراوتها والأسلحة المستعملة فيها ومعارك الكر والفر والكمائن التي استعملها الأوكرانيون لصد التقدم الروسي في عدة نقاط كما حدث في أفدييفكا وبروفاي وما سمّي بـ“مجزرة بوتشا”، وبالعودة إلى تصريحات زعيم مجموعة فاغنر الروسية يفغيني بريغوجين الذي انتقد بشدة أداء الجنرالين وزير الدفاع سيرجي شويغو ورئيس هيئة الأركان فاليري غيراسيموف وأكد مقتل 20 ألف مقاتل من قواته في معركة السيطرة على مدينة باخموت بشرق أوكرانيا، فإن هذا التقرير الذي يشير إلى خسائر فادحة في الأرواح من الجانب الروسي لا يمكن أن يكون مجرد بروباغندا بل إنه مرآة تعكس جزءا من الحقيقة ربما لا يجرؤ على الاعتراف بها من لا يريد أن يتحمل المسؤولية.
◄ إقرار مجلس النواب الأميركي حزمة مساعدات أمنية جديدة بقيمة 95 مليار دولار، يخصص منها جزء كبير بالدرجة الأولى لأوكرانيا، يعني أن السيناريوهات التي رجحت انهيارا وشيكا لأوكرانيا أصبحت لا محل لها من الإعراب
تقترب الخسائر الروسية في أوكرانيا من مستوى حرب ستالين الشتوية ضد فنلندا قبل الحرب العالمية الثانية مباشرة، وهي أعلى بكثير من خسائر حرب أفغانستان، ومع ذلك لا يبدو الروس مستعدين لتقديم موقف تفاوضي مغاير وأقل عنادا، نعلم بأن تقديم الخطط العسكرية لحسم الصراع على أدوات الدبلوماسية يعني بالتأكيد أن الروس قد قرروا إرجاء استخدام الورقة التفاوضية للخروج من المأزق الأوكراني إلى أن تكشف الانتخابات الأميركية عن هوية الساكن الجديد للبيت الأبيض، ولكن لكل يوم تكلفته المادية والبشرية التي تأتي على حساب الجبهة الداخلية ومع وصول المزيد من الدعم المادي والعسكري للأوكرانين فإن الوضع الميداني قابل للتغيير وقابل لخلط الأوراق لصالح الجهة المقابلة.
تعترف كييف بأنها فقدت 31 ألف جندي ومع ذلك يشكك البعض في حقيقة الرقم الإجمالي ويصفونه بأنه أقل بكثير من الخسائر الحقيقية، وقد يكون هذا سلوكا طبيعيا ربما تكون الغاية منه الحفاظ على مستوى ثقة الجنود الأوكرانيين على الجبهة وعلى الروح المعنوية للقتال، لكن أيا كان عدد القتلى الأوكرانيين لا يمكن أن ننسى بأن هؤلاء يواجهون الغزاة ويصنعون الملحمة الوطنية ويدفعون ثمنا باهظا في سبيل إنقاذ بلادهم من المحتل. في الجهة المقابلة يموت الآلاف من الشبان الروس عديمي الخبرة القتالية من الذين أرسلوا للتعبئة الحربية لمجرد قرار من بوتين بخوض حرب لا معنى لها حرفيا، والدليل على ذلك أنها لم تمنع الناتو من التمدد ولا الروس من تغيير نظام كييف بعد عامين من الحرب.
التقدم الروسي في الأسابيع الأخيرة كانت له فاتورته الباهظة عندما نتحدث عن خسارة ما يقرب من 15 ألف رجل في معارك أفدييفكا، لكن هل كان هذا التقدم إستراتيجيا وحاسما في الحرب مقابل التكلفة العالية في العتاد والعدة؟ فعلى الرغم من النقص الفادح في العتاد والذخيرة والتمويل إلا أن الأوكرانيين لا يتراجعون إلا بعد معارك شرسة والروس لا يحققون سوى انتصارات رمزية في حين لا يزال فولوديمير زيلينسكي في كييف رئيسا لأوكرانيا.
إقرار مجلس النواب الأميركي حزمة مساعدات أمنية جديدة بقيمة 95 مليار دولار، يخصص منها جزء كبير بالدرجة الأولى لأوكرانيا، يعني أن السيناريوهات التي رجحت انهيارا وشيكا لأوكرانيا أصبحت لا محل لها من الإعراب، فالمال سيسمح باستمرار الحرب وإطالة جولاتها وهذا يعني أننا مقبلون على أشهر أخرى في المواجهة، وهو ما سيستدعي من الخصمين الدفع بموجات أكبر من جنودهما إلى مواجهات في ميادين مفتوحة وأخرى لم تفتح بعد، والمؤكد أنها سترفع من أرقام الخسائر البشرية وستدفع بالحل الدبلوماسي إلى نقطة أبعد من ذي قبل.