مستقبل البشر بين التحديات والفرص: في ضرورة إعادة ضبط المنظورات الأخلاقية

في نفس اليوم، وبينما أنا في طريقي إلى العمل، رَشَحَت على كوكب شاشة “هاتفي الذكي”، حيث بات كل شيء في متناول لمسة أِصبَع، مقالة علمية ومقابلة مع خبيرة.
الأولى نُشرت في مجلة “الغد” في قسم التقنيات المستقبلية، وجاءت تحت عنوان “الطاقة من البحر”. أما المقابلة التي وُضعِت تحت عنوان “تأملات في الذكاء الاصطناعي” فقد تم إجراؤها مع أستاذة الفلسفة الأخلاقية في جامعة ماشيراتا الإيطالية السيدة بينيديتا جيوفانولا لصالح “معهد أخلاقيات الذكاء الاصطناعي” الذي تم تأسيسه في العام 2019 بمدينة ميونخ الألمانية بهدف دراسة التفاعلات المتبادلة بين العلم والتكنولوجيا والمجتمع، في سبيل تطوير أخلاقيات عامة في مجال الذكاء الاصطناعي.
قد يبدو الموضوعان لا علاقة لهما ببعضهما البعض، لكن لا أدري لماذا طرأت على بالي فكرة وجود رابط ما يجمعهما، خصوصا في ضوء ما يمر به العالم من أزمات طاحنة، وتحولات مهولة.
المقالة تبعث الكثير من الأمل، فهي تتحدث عن الكميات الهائلة من الطاقة التي تمتصها المحيطات الاستوائية في اليوم الواحد، حوالي 278 بيتا واط (واحد بيتا واط يساوي كوارديليون واط) وهو ما يكفي لتزويد الأرض بالطاقة لعدة قرون. تقوم الفكرة على أنه في المناطق التي تكون فيها درجات الحرارة متفاوتة جدا بين طبقات متقاربة من المياه (على سطح المياه تتجاوز 25 درجة مئوية، وفي عمق 800 متر تصل إلى 4 درجات) تُستهلك يوميا هذه الكميات المهولة من الطاقة التي في حال تم استثمارها بشكل جيد ستكون مصدر الطاقة المستقبلية. وبحسب المقالة مازالت ثلاثة عوائق رئيسية تحول دون تحقيق نجاحات مُعتبرة في هذا المشروع: المضخات المُستخدمة حاليا مازالت تَستهلك كميات كبيرة من الطاقة، تآكل المعدات بسبب المياه المالحة، والأضرار الناجمة عن العواصف.
والخبر المُبشر في هذه الصدد هو أن إحدى الشركات استطاعت تطوير حلول للتغلب على هذه التحديات ولو بالحد الأدنى، وتقليل الأضرار، ويُتوقع أن يتم توفير 1.5 ميغاوات بحلول العام 2025!
على العكس من الأمل والتفاؤل الكبيرين اللذين تبعثهما المقالة، تتمحور أفكار المقابلة حول المخاوف الشديدة التي يثيرها استخدام الذكاء الاصطناعي بشكلٍ خاصٍ، والتكنولوجيا بشكلٍ عام، والتي لم تعد مجرد وسيلة /أداة، بل أصبحت “بيئة مُشكِلة”، بحسب رأي الخبيرة.
ثم كيف يمكن تطوير أخلاقيات ومبادئ عامة حاكمة بحيث يُمكن أن تتم الاستفادة من الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا لمعالجة القضايا الأزلية المؤرقة: ضبط مرتكزات العدالة، تفعيل قواعد الإنصاف، ومعالجة التفاوت السلبي/ عدم المساواة بين البشر، وهي القضايا التي شغلت الفلسفة الأخلاقية منذ فجر التاريخ.
ومع أن أفكار المقابلة تقليدية، ولم تَضِف شيئا جديدا ذا قيمة للموضوع، فإن ما دفعني إلى إيجاد رابط بينها وبين المقالة والأحداث الحالية في العالم هو قضيتان.
القضية الأولى، وهي قضية معروفة وتجري نقاشات كثيرة حولها وتتمثل في كيف يُمكن الاستفادة المُثلى من التكنولوجيا في سبيل تحسين فرص المستقبل البشري. التفاؤل الكبير الذي تبعثه المقالة يتعارض كليا مع كل الأطروحات التشاؤمية حول وضع كوكب الأرض الحالي ومستقبله. وما تقوله المقالة أنه لا حدود لموارد الأرض، والحدود الموجودة هي قائمة بسبب قدرات الكائن البشري الحالي، فما تَكَشَّف لنا إلى حد الآن هو فقط بمقدار معرفتنا وبمقدار قدرة الأدوات والوسائل التي استطعنا تطويرها. وبالتالي فاستلال مبادئ وضوابط أخلاقية حاكمة وحاسمة لتوجيه كل التقدم التكنولوجي في صالح غايات نبيلة ومفيدة بإمكانه أن يُحقق الكثير من الخير والنماء والعدالة لكل البشر عن طريق استكشاف الموارد المجهولة والمهولة، وإيجاد آلية فاعلة للتوزيع العادل!
القضية الثانية تتعلق بضرورة إعادة النظر في الطريقة التي تُفكِّر أو تبحث بها الفلسفة والفكر عموما القضايا والمسائل الأخلاقية. يجري ربط دائم بين التفاوت وعدم المساواة وتَفجر الصراعات والعنف، وهذا يحيل بطبيعة الحال، وبطريقة غير مباشرة، إلى أن هذه المشاكل والأزمات يكون مصدرها الرئيسي والأساسي في العادة الفقراء والمهمشين والمظلومين ضد المتفوقين وأصحاب الفرص الكبيرة كانتقام منهم لواقع التفاوت المزري وعدم المساواة الأليم الذي وجدوا أنفسهم فيه دون اختيارهم.
هذا الربط غير دقيق، بل وللأسف الشديد تستبطنه عنصرية مراوغة. هناك بالتأكيد علاقة بين المعاناة والقهر ودرجة الاستعداد للسلوك السلبي/المُضر، لكن هذا الربط يتجاهل واقع التاريخ الفاقع في كل حقبه والذي يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن مصدر أكبر الشرور في العالم كان ومازال يكمن في دوافع ونزعات كالجشع والطمع وحب السيطرة والاستحواذ، وعادة ما يقوم بها الأقوياء. ولهذا يجب أن تُبدي الدراسات والاشتغالات الفكرية خصوصا المختصة في الجوانب الأخلاقية اهتماما أكبر بدراسة وتحليل هذه الأسباب والبحث عن حلول لها، مباشرة ودون التحايل بالهرب إلى أكواخ قضايا وأسباب جانبية، تؤدي في النهاية إلى تحميل الضحايا -وليس الجناة- مسؤولية مآسي التاريخ البشري، إذا ما كانت هناك بالفعل غاية جادة ونبيلة من هذه المقاربات تهدف إلى جعل المستقبل البشري أفضل حالاً مما هو عليه، ومعالجة كل مشاكله المستعصية. وإلا فإننا سندور في حلقة مفرغة من الامتهان الإنساني، ولن يسهم التقدم التكنولوجي سوى بالمزيد من توفير حظوظ الأقوياء في امتلاك وسائل القهر والظلم، وبصورة مروعة!