الكرد في سوريا والعبث السياسي

في أعقاب ورود كل إشارة جديدة من الولايات المتحدة حول إمكانية الانسحاب من سوريا، تتعاظم مخاوف الكُرد خشية أن يتحولوا إلى فرائس طيعة ولقم سائغة بين مخالب وأنياب العديد من المتربصين بهم كتركيا والنظام السوري وإيران والدواعش في حال أضحى الانسحاب حقيقة لا مناص من مواجهتها.
وبالتزامن مع ظهور كل مؤشر جديد يشي باحتمال الانسحاب الأميركي من المناطق الكردية في سوريا في المستقبل المنظور، يطفو على السطح الخطاب الكردي القديم الجديد وفحواه اتهام الآخر بالغدر والخيانة واللا مبالاة، وفي هذه الحالة المعنيون هم الأميركان، وتبرئة وتنزيه الذات الكردية أو الذوات الكردية العديدة المتعادية من وزر ما قد يتمخض من تبعات جراء الانسحاب الأميركي من سوريا في حال انتقل هذا الانسحاب من طور الفرضية إلى طور الواقع، وعدم إيلاء حالة الشقاق والتشرذم السياسي والمجتمعي الحادة والمزمنة التي يعاني منها الكُرد في سوريا أي أهمية أو أي دور في إمكانية تحسين المشهد وإكثار خيارات الإنقاذ بدل تقليصها.
فالعقل السياسي الكردي هو فطري وموروث وليس مكتسبا أو مستحدثا، بمعنى هو دائب على لوم واتهام وشيطنة الآخر دون الالتفات إلى دور الذات أو الذوات في خلق واستفحال المأساة. مع العلم أن الشكوك تحوم حول وجود عقل سياسي كردي متبلور وواضح المعالم والملامح بدليل طغيان ثقافة الاجترار وتكرار المكرر وتقديس الجهل والانحطاط الفكري والسياسي والإدمان على الغيبوبة الفكرية والإدعاء بالصحوة الشكلية.
هذا العقل مبرمج على اتهام الآخر والولع بنظرية المؤامرة وتنزيه الذات الكردية أو بالأحرى الذوات الكردية الكثيرة المتخاصمة عقب كل كارثة تعصف بالكُرد وتُقوّض معها إنجازاتهم التي تحققت وصمدت غالبا بفضل الآخرين. هذه القراءة الكردية الاستثنائية، بالمعنى السلبي والمضحك المبكي للكلمة، للأحداث والتطورات سواء تلك التي في الماضي أو في الحاضر قديمة قدم قضايا الكُرد ذاتها. هذه القضايا التي حولها أصحابها الكُرد، الذين ادعوا ويدعون الدفاع عنها بعقليتهم المنقرضة، إلى مآس ومعضلات. وجل فصولها أصبحت بين الكُرد أنفسهم أكثر مما أصبحت بين الكُرد والدول التي تقمعهم وبإشراف وتوجيه ورعاية من تلك الدول.
مجهر العقل الكردي مخصص ومصوب ومبرمج فقط نحو الآخرين وعلى أساس اتهام وشيطنة الآخرين المتآمرين دائما وأبدا ضد قضايا وحقوق الكُرد
يُقال إن إبّان الوجود الفرنسي في سوريا، أسر بعض المسلحين الكُرد في إحدى المناطق الكردية في سوريا جنديين فرنسيين وتم اقتيادهما إلى قائد المجموعة للتحقيق معهما. قائد المجموعة وباللغة الكردية، موجها بالسؤال المشحون بالغضب إلى الجنديين الأسيرين: ماذا تريدون منا؟ لماذا أنتم هنا؟ هذه أرضنا وأنتم المعتدون، وما إلى ذلك من هذا الكلام. الجنديان يتطلعان إلى بعضهما البعض في استغراب ومن ثم إلى قائد المجموعة في ذهول دون أن ينبسا ببنت شفة. بعد عدة أسئلة أخرى وجهها لهما قائد المجموعة رشا في لكنة قوامها الغضب والانزعاج وبعد أن كان جوابهما الصمت المطبق، استشاط قائد المجموعة غضبا سائلا مساعده: لماذا لا يجاوبونني هؤلاء الأوغاد؟ لماذا لا يتكلمون؟ هل هم خرسان وطرشان؟ أجابه المساعد الذي كما بدا كان أكثر فهما واطلاعا من قائده: سيدي هؤلاء فرنسيون ولا يتحدثون الكردية وإنما الفرنسية فقط. زمجر القائد بغضب وقال في استهجان: يا للعجب، شابان مثل اللوح ولا يتكلمون الكردية! ثم أردف القائد آمرا: خذوهما واقتلوهما هذان الغبيان. قائد المجموعة الأمّي والجاهل كان يعتقد أن العالم أجمع يتكلم الكردية.
تُذكرني هذه القصة بشكل أو بآخر، والتي قد تكون من وحي الواقع أو الخيال أو من باب الفكاهة، بطبيعة وتركيبة العقل السياسي الكردي الرسمي والشعبي الجديد – القديم في سوريا. فالكُرد في سوريا على المستويين السياسي الرسمي والشعبي يعتقدون أن الأميركان يصنعون ويصممون سياستهم الخارجية في سوريا آخذين بعين الاعتبار المصالح الكردية أو وكأن تلك المصالح هي الركيزة المحورية في صناعة الأميركان لسياستهم الخارجية في سوريا، الأمر الذي ينافي الواقع والمنطق والتاريخ.
بدورهم، الأميركان لا يفوتون فرصة إلا ويقولون فيها إن سبب وجودهم وبقائهم في سوريا كان ولا يزال من أجل دحر داعش. وبصرف النظر عن دقة ومصداقية الحجة الأميركية، إلا أن الكُرد بقراءتهم الفريدة ما بين أو ما خلف السطور يعتقدون أو يأملون في أن يكون السبب الحقيقي وراء البقاء الأميركي في سوريا هو تمكين الكُرد من استحصال بعض حقوقهم. هكذا كان ولا يزال الكُردي يعيش على الأحلام التي ينسجها له عقله وربما إيحاءات وإيماءات الآخرين غير البريئة. هذه الأحلام التي سرعان ما تتحول إلى كوابيس حقيقية تدك معها إنجازاتهم الصعبة وتضع الكردي في خطر وجودي محسوس.
الكُرد في سوريا أدمنوا واستساغوا حالة العبث السياسي الذي هو ببساطة عدم امتلاك بوصلة بالأساس وليس فقدانها
تتألف هذه القراءة العتيقة – الحديثة من ركيزتين: الأولى اتهام الآخر سلفا وبشكل مسبق وكأنه من المسلمات بالغدر والخيانة واللا مبالاة، والمعنيون في هذه الحالة هم الأميركان. والركيزة الثانية: تبرئة وتنزيه الذات المقدسة أو الذوات المتضادة المقدسة من مسؤولية وتبعات ما قد ينتج من غدر وخيانة الآخرين للكُرد، بطبيعة الحال وفق القراءة الكردية الرسمية والشعبية. واعتبار الكُرد بشكل عام أن الأداء السياسي الكردي الرسمي الراهن، سواء النابع من حزب الاتحاد الديمقراطي وإدارته الذاتية أو الصادر من خصمه اللدود، المجلس الوطني الكردي الذي يعمل مع تركيا، هو في أفضل أحواله، ولم يكن بالإمكان أفضل مما كان، وعدم إيلاء حالة الشقاق والتشرذم السياسي والمجتمعي الحادة والمزمنة التي يعاني منها الكُرد في سوريا أي أهمية وأي دور فيما آلت وستؤول إليه الأوضاع.
والأمثلة على طغيان هذه القراءة البدائية من قبل الكُرد لماضيهم وحاضرهم كثيرة ابتداء من معاهدة لوزان 1923 ومرورا بانهيار جمهورية آرارات في كردستان تركيا 1927 – 1930 وسقوط جمهورية مهاباد في كردستان إيران 1946 – 1947 وفشل الثورة الكردية في كردستان العراق 1975 إثر اتفاقية الجزائر بين بغداد وطهران، وانتهاء بعدم القدرة على ترجمة نتائج استفتاء الاستقلال في كردستان العراق 2017 إلى واقع ملموس بسبب هشاشة الوضع الداخلي وانعدام الدعم الدولي والإقليمي ومسؤولية الدبلوماسية الكردية البدائية عن ذلك، واحتلال عفرين وسرى كانيه وكرى سبي في كردستان سوريا 2018 و2019، والمخاوف المتعاظمة حاليا بسبب احتمال انسحاب الولايات المتحدة من سوريا وترك الكُرد لوحدهم يواجهون مصيرهم المجهول المعلوم.
مجهر العقل الكردي مخصص ومصوب ومبرمج فقط نحو الآخرين وعلى أساس اتهام وشيطنة الآخرين المتآمرين دائما وأبدا ضد قضايا وحقوق الكُرد. ولم يستطع هذا المجهر طوال قرن كامل معرفة أو اكتشاف الذات أو الذوات الكردية ومسؤوليتها عن المحن التي شهدها ويشهدها الكُرد.
هذا المجهر الذي يعجز عن الكشف أن الساسة الكُرد في سوريا وأربيل وقنديل مجتمعين هم من دأبوا وبلا فخر على انكماش الخيارات الكردية في سوريا من معدودة إلى شبه معدومة بسبب طغيان التنابذ والاستقطاب. وهم جميعا من ساهموا بشكل أو بآخر وبنسب متفاوتة في ترك الكُرد مناطق سكناهم وتفريغ مناطقهم والتغيير الديمغرافي الناتج لغير صالحهم.
الكُرد في سوريا أدمنوا واستساغوا حالة العبث السياسي الذي هو ببساطة عدم امتلاك بوصلة بالأساس وليس فقدانها. وهذا بدوره يوحي بعدم وجود خطة وإستراتيجية وهدف، وكأن الكُرد في سوريا وممثليهم لا يعرفون ماذا يريدون وماذا ينتظرون. العبث السياسي هو الإدمان على الاجترار وتكرار المكرر العقيم والعاقر. وقبل هذا وذاك هو عدم القدرة على معرفة نقاط وأوراق القوة الذاتية وتبديدها وعدم استخدامها عن عمد أو عن غير عمد. وما يميز نموذج العبث السياسي الكردي في سوريا عن بقية النماذج هو التأبد في فخ العبث الموصد بإحكام قل نظيره.
إن عدالة أي قضية لا تُستمد فقط من المظلومية التاريخية والحاضرة التي ابتلي بها أصحاب تلك القضية، وإنما أيضا من طبيعة وسلامة ومصداقية ونزاهة الحراك النضالي لأصحاب وممثلي تلك القضية. هذا الحراك الذي يهدف في النهاية إلى إزالة آثار وانعكاسات ونتائج تلك المظلومية أو على الأقل التخفيف منها، وهذا الذي لطالما افتقده الكُرد في سوريا ولطالما لم يشعروا به، ولذلك لم يكدوا لامتلاكه.