التفكيك الثاني بين مصر والقضية الفلسطينية

الزاوية المصرية في ملف الميناء تحتاج تسليط الضوء عليها فالنتيجة المباشرة لبنائه هي تفكيك ثان بين القاهرة والقضية الفلسطينية منذ التوقيع على اتفاقية السلام التي كانت بمثابة تفكيك أول.
الجمعة 2024/03/15
القضية تتجاوز دخول المساعدات وخروجها

إذا لم تقم مصر بتطوير ديناميكيات تعاملها سياسيا وأمنيا مع القضية الفلسطينية سوف يتسرب دورها من بين يديها، وتوضع العديد من مفاتيح التحكم فيها عند آخرين، بما ينعكس سلبا على دور القاهرة الإقليمي، ويتأثر الأمن القومي المصري المرتبطة أجزاء كبيرة منه تاريخيا بتطورات هذه القضية، فحرب إسرائيل على قطاع غزة يمكن أن تصطحب معها تداعيات تؤثر على العلاقة التقليدية بين مصر وفلسطين.

لعل الخطوة التي تقوم بها الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، والمدعومة من إسرائيل، بإنشاء ميناء بحري في غزة لتقديم المساعدات إلى سكانه، واحدة من التحركات التي تقود لفك الارتباط بين مصر والقطاع، والذي يعد معبر رفح نقطة العبور الوحيدة منه وإليه، بعد قيام إسرائيل بغلق معابرها الستة مع غزة منذ سنوات، والسيطرة على الجو والبحر، ما جعل معبر رفح حلقة الوصل الوحيدة بالعالم.

يشير تدشين الميناء في ظاهره إلى تقديم المساعدات الإنسانية وإنقاذ الجوعى، وفي باطنه إلى أشياء أخرى، بينها تعظيم الملف الإنساني ليتقدم على غيره من الملفات المصيرية، فإسرائيل التي أغلقت معابرها وتسببت في تحجيم معبر رفح من الجهة الفلسطينية هي نفسها التي تتعاون بسخاء لبناء الميناء، وكأن الولايات المتحدة والمجتمع الدولي غير راغبين في الضغط عليها لدخول المساعدات من المنافذ ونقاط العبور الحالية، للدرجة التي بدت عمليات إنزال المساعدات من الجو على مناطق متفرقة في غزة عملا خارقا للعادة وإنجازا معنويا للدول المشاركة فيها.

◙ المسألة تتجاوز دخول وخروج المساعدات، وسد الثغرات الأمنية التي كان يتسلل منها الإرهابيون إلى سيناء، وتصل إلى مستوى أعمق يتعلق بدور مصر الإقليمي

خلقت إسرائيل العثرات لتعطيل دور معبر رفح لأنها تريد استكمال حلقات سيطرتها على القطاع، وإبعاد مصر عن المشاركة بأي دور ملموس في تفاعلاته، ولعدم الصدام معها لجأت إلى فكرة الميناء التي وجدت ترحيبا أميركيا، كحل إنساني مناسب لما تم وضعه من عراقيل أمام دخول المساعدات للقطاع، وتم تسويق الفكرة باعتبارها إعجازا سياسيا وعسكريا، بينما ما تحمله من تفاصيل يمثل خطورة كبيرة للفلسطينيين.

تحتاج الزاوية المصرية في ملف الميناء تسليط الضوء عليها، فالنتيجة المباشرة لبناء هذا الميناء هي تفكيك ثان بين القاهرة والقضية الفلسطينية منذ التوقيع على اتفاقية السلام التي كانت بمثابة تفكيك أول، حيث أعادت سيناء إلى مصر بعد ماراثون طويل من المفاوضات، لكن طريق التسوية السياسية أنهى عمليا الدور العسكري في مواجهة إسرائيل، بمعنى آخر وضعت شروطا قاسية عليه، وجعلت تكلفة العودة إليه باهظة.

مع ذلك نجحت مصر في الحفاظ على ارتباطها المادي والمعنوي بالقضية الفلسطينية، ووجدت في محادثات السلام بين إسرائيل والفلسطينيين مدخلا مناسبا للتنصل من عملية تحييدها، وأبت أن تكون بعيدة عن الجولات التي خاضتها إسرائيل عسكريا مع بعض الدول العربية، من خلال تعظيم دورها السياسي في المنطقة، والذي وجدت فيه حلا لرفض الابتعاد، ووسيلة للحفاظ على أمنها القومي بالطريقة التي تريدها، بسبب العلاقة العضوية مع فلسطين وما يمكن أن تفضي إليه التضحية بها من تأثيرات قاتمة.

خلقت القاهرة دورا إقليميا من فراغ كان يمكن أن يلحق بها والتحمت سياسيا مع القضية الفلسطينية، وتحملت الضغوط الهائلة من بعض الدول العربية وإسرائيل، فضلا عن تطاول قامت به فصائل فلسطينية واستنكارا لمنهجها في التسوية السياسية، ولم تهدأ هوجة الانتقادات والاتهامات إلا مع تصاعد نغمة الحديث عن السلام في المنطقة والدخول في محادثات متعددة أدت إلى غلبة منهج التسوية على المواجهة.

بدا اتجاه إسرائيل نحو التطبيع مع بعض الدول العربية، فيما يعرف بالاتفاقيات الإبراهيمية، خصما جديدا من رصيد مصر في المنطقة، وتقليصا لعلاقتها بالقضية الفلسطينية، وما جعلها ممتعضة أكثر من هذا الطريق أنه سيؤثر على بعض ثوابت القضية التي وقف العرب بجوارها، ما يضر بالفلسطينيين ومصر، لأن رؤيتهما للتسوية السياسية ستتراجع مع كل اختراق تحرزه إسرائيل على الساحة العربية.

أعادت عملية طوفان الأقصى ضبط بعض المفاتيح في القضية الفلسطينية، وأوقفت (مؤقتا) مسار الاتفاقيات الإبراهيمية، وعلى الرغم من المفاجأة التي حملها السابع من أكتوبر وتداعياته، غير أنه أعاد مصر إلى الواجهة، ووضع فلسطين مرة أخرى في سلم الأولويات، وعاد الحديث عن مركزية الصراع مع إسرائيل وقيام دولة فلسطينية، لكن من دعوا إليها صدموا بممارسات تقوم بها حكومة الحرب تنزع الدسم عن الفكرة.

◙ تدشين الميناء يشير في ظاهره إلى تقديم المساعدات الإنسانية وإنقاذ الجوعى، وفي باطنه إلى أشياء أخرى، بينها تعظيم الملف الإنساني ليتقدم على غيره من الملفات المصيرية

جرى استنزاف مصر في جدلية فتح وغلق معبر رفح، دخول ومنع المساعدات، التدقيق في عمليات التفتيش عند معبر كرم أبوسالم، مظاهرات واحتجاجات المستوطنين لمنع دخول الشاحنات، وحديث شائك من الرئيس الأميركي جو بايدن حول دوره المهم في فتح معبر رفح بعد الحرب، واتهامات لمصر بالتنسيق الأمني مع إسرائيل في محور فيلادلفيا، ثم اتهامات بالتعاون لاجتياح قوات الاحتلال مدينة رفح بجنوب غزة والرد عليها، إلى أن وصلت السردية إلى محطة بناء ميناء في غزة.

تعاملت مصر مع الموقف العام بحكمة، ولم تنجر إلى مناوشات عسكرية أو تدخل في مناكفات سياسية، وحافظت على صلابة رؤيتها ولم يستطع من أرادوا تهميشها بعد اتفاقية كامب ديفيد أن يحققوا أغراضهم في حرب غزة، وحافظت على شعرة معاوية في محادثات صفقة الأسرى، وغالبية الطروحات الإقليمية التي يتم تداولها منذ اندلاع الحرب، غير أن ملف الميناء قد يكون اختبارا حادا، لأن مصر أول المتضررين منه إذا أخفقت في تفويت الفرصة على من يريدون استثماره ليصبح بديلا عن معبر رفح.

تأتي مشكلة ميناء غزة والطريقة التي من المتوقع أن يعمل بها والأسباب التي دفعت للتفكير فيه، من التغيير الذي يمكن أن يحدث في زاوية الجغرافيا السياسية، والجهود المبذولة لتغييرها، فلم تكتف إسرائيل بتقطيع أوصال غزة العسكرية والتحكم في خارطتها الاجتماعية الداخلية، بل راحت إلى إعادة رسم جغرافيتها الخارجية، لتصبح في النهاية قابضة على أبوابها، برا وجوا وبحرا، تمهيدا لإلغاء الدور الذي يقوم به معبر رفح، أو الضغط على مصر للقيام بتعاون كبير في تنظيم عملية العبور فوق الأرض وتحتها.

تتجاوز المسألة هنا دخول وخروج المساعدات، وسد الثغرات الأمنية التي كان يتسلل منها الإرهابيون إلى سيناء، وتصل إلى مستوى أعمق يتعلق بدور مصر الإقليمي، الذي كان مرتبطا بوضوح بالقضية الفلسطينية، ولم تفلح محاولات التهميش سابقا في تقويضه، وتمكنت القاهرة من القفز عليه بوسائل مختلفة، وأوجدت لنفسها دورا في كل الحروب التي وقعت في غزة، بحكم الجغرافيا التي يصعب إنكارها.

9