الاشتباك على أرض محايدة

يقولون إن السياسة في النهاية هي لعبة يجلس اللاعبون الكبار حولها ليحركوها بكل سهولة ويتحكموا بالرقعة التي تكتظ على سطحها بيادق منزوعة الإرادة، وهم يلوّحون من عليائهم ما دامت همومهم تنحصر داخل تلك الرقعة دون اكتراث لهموم البيادق وأوجاعها.
في العراق تتوتر الأوضاع وتنسحب على كل المجالات كلما اشتبك حامي النظام السياسي، ونقصد به الولايات المتحدة، مع حامي أركانه ودلالته إيران، ليبقى السؤال قائماً: متى يخرج ذلك الاشتباك من أرض العراق؟ حينها فقط يعرف هذا البلد معنى الاستقرار.
حالة من الغموض والمجهول تصنع الواقع المعقد في العراق، بسبب وجود العامل الخارجي المؤثر في قراره وسيادته، وتعمل على ديمومته. والمفارقة أن النظام السياسي الذي أسسته الولايات المتحدة في العراق بعد عام 2003، استماتت إيران في الدفاع عنه، وأن الدولتين كانتا تتصارعان على أرضه مرة، وتتفقان على تدميره مرات أكثر، حتى فَقَد العراقيون بوصلة الحقيقة و”ضاع الخيط والعصفور” حسب ما يُشاع في أمثالهم الشعبية.
◙ كيف يُرضي واشنطن وطهران حال مثل حال المطرقة والسندان يتم طحن العراق بينهما دون مستقبل واضح أو هوية وطنية
سخرية ذلك النظام السياسي أنه بات يستقطب كل تلك التدخلات الخارجية وهو يسأل هل من مزيد؟ إلى حد ضياع هويته الوطنية وسيادته المفترضة حين أوجد نظام المحاصصة والانتماءات متعددة الألوان.
كثيرة هي فرص المواجهة والاشتباك والأكثر منها تلاقي رغبات الأميركيين والإيرانيين على حد سواء دون الاكتراث لمصالح العراق المنهوب من الطرفين، حتى ساد اليقين أن لا طرف يريد التغيير في العراق، ليبقى الوضع على ما هو عليه.
هي ليست أكثر من لعبة بالنسبة إليهم، كلعبة الشطرنج أو الدومينو، لا فرق ما دامت مصالحهم تنحصر بساحة الملعب حيث القواعد الحاكمة التي لا تجيز التفكير في هموم البيادق، ولا أوجاع الكرة التي تتقاذفها أقدام اللاعبين، المهم وجود ذلك التنافس المحموم الذي يُغري المتنافسين، وفوز يجب تحقيقه والتحشيد لنيله، ويبقى السؤال هل هي الحرب أم اللاحرب؟
في موقف يقترب من الحيرة يقضي رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني سنوات حكمه محاولاً التأكيد على موقف العراق غير المنحاز لأي طرف في هذه المعادلة، مجتهداً في وضع مساحة أمان بينه وبين البلدين المتخاصمين تارة، والمتصالحين تارة أخرى، ومنتظراً ظهور ما يوحي بحلحلة الأمور بين الجانبين ونزع فتيل الحرب بالإنابة التي يدفع العراقيون أثمانها الباهظة. ولكن في المحصلة وساطة السوداني لن تكون مثل محاولات الرئيس الأميركي الأسبق تيودور روزفلت بين اليابانيين والروس، خلال حرب اندلعت عام 1904 واستمرت لأكثر من عام ونصف العام منح على إثرها جائزة نوبل للسلام بعد أن تمكنت جهوده الدبلوماسية من إنهاء تلك الحرب، وهي وساطة لن يكون بمقدور السوداني أن يفعلها أو يفرضها على طرفي الخلاف.
◙ حالة من الغموض والمجهول تصنع الواقع المعقد في العراق، بسبب وجود العامل الخارجي المؤثر في قراره وسيادته، وتعمل على ديمومته
الخلاصة أن العراق انهار كدولة ومؤسسات بفعل قواعد الاشتباك غير النظيفة على أرضه، ويبقى الحديث عن سيادة، متعدد الأوجه وذا غايات غامضة ومتلونة، فيما تفتح البلاد أبوابها المتعددة على مصراعيها لكثرة الآراء والتفسيرات لمرضى الكذب والتدليس، وتخلق أبطالاً من ورق يساهمون في غموض ما هو غامض أصلاً، إلى درجة أن البلد أصبح عاجزاً عن كبح جماح أي عدوان، أو على الأقل معرفة نوع وأسباب الاعتداء الذي يطاله.
المضحك حد البكاء هو لجان التحقيق التي تُشكلها الحكومة لمعرفة هول الحقيقة المعروفة أسبابها ونتائجها وستُنسى في أدراج النسيان أحداثها على وقع أحداث أخرى متوالية.
لا يدرك هؤلاء القوم أن العالم لا يحترم الضعيف في قراره السياسي داخلياً وخارجياً، وغياب ذلك القرار الموحد الرسمي يجعل من العراق فريسة سهلة لكل نطيحة ومتردية، وهذا ما لا تريد أن تفهمه الكتل السياسية الحاكمة في المنطقة الخضراء التي تُجيد فن تهشيم النظام السياسي من الداخل، وتشطره إلى درجة أصبح التوصيف الوظيفي لرئيس الحكومة التنفيذي مثل مدير عام، كما وصفه أحد الزعامات في الإطار التنسيقي، ليوضع في دائرة منسية في ضعف وهوان.
حروب الإنابة التي تحدث على أرض العراق بين الولايات المتحدة التي تخشى القصف في الداخل الإيراني تجنباً لتوسع محاور الحرب في غزّة، وإيران التي تدفع بأذرعها لغايات ومصالح تصب في مصالحها، ليكون العراق هو الخاسر الأوحد الذي لم تغادر أرضه الحروب والانكسارات ويحكمه نظام سياسي لا يبالي به ولو استقرت البلاد في قعر الجحيم. وإنما كيف يُرضي واشنطن وطهران حال مثل حال المطرقة والسندان يتم طحن العراق بينهما دون مستقبل واضح أو هوية وطنية أو مفهوم معرّف للسيادة في بلد عمره أكثر من 6000 عام علّم المجتمعات كيف تكون الكتابة، لكنه للأسف اليوم لم يتعلم هو.