إنقاذ مصر هدف أوروبي

إذا كان إنقاذ مصر هدفا أوروبيا فإن إنقاذها داخليا هدف النظام الحاكم فيها حاليا ولن تصبح المساعدات والاستثمارات والقروض الخارجية مجدية ما لم يقم النظام بإيجاد حلول عملية للأزمة الاقتصادية.
الثلاثاء 2024/02/20
لا فكاك من إنقاذ الاقتصاد المصري.. الفوضى إن حدثت لن تكون خلاّقة

ثبّتت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وما يمكن أن يسفر عنها من تدهور واسع في منطقة الشرق الأوسط قناعة رددها ساسة مصريون كثيرا أن العالم لن يتحمل انهيارا يمكن أن يحدث في بلدهم، حيث يؤدي إلى فوضى لن تتحملها بعض الدول الأوروبية في شمال البحر المتوسط.

كما ولّدت هذه القناعة الثقة في عدم ترك الدول الغربية الأزمة الاقتصادية التي تعيشها مصر لتنال من هياكلها الرئيسية، ففي لحظة معينة سوف يتم التدخل لإنقاذها من براثن العاصفة، وليس إنقاذ نظامها، وهو ما أشار إليه تقرير نشرته مجلة “إيكونوميست” مؤخرا. وبقدر ما حذّر التقرير من مخاوف شبح الانهيار، حوى بارقة أمل بأن هناك خطة يمكن تدشينها لمساعدة مصر اقتصاديا، على الأقل لتخفيف حدة الأزمة الراهنة وتجنب أن تؤدي تداعياتها إلى نتائج تؤثر على تماسك الدولة الكبيرة.

بدأت ملامح هذا الإنقاذ تظهر في تصريحات أوروبية حول تقديم حزمة مساعدات في شكل استثمارات بنحو عشرة مليارات دولار سيتم ضخها قريبا، وتكشفت في مواقف أميركية داعمة للحكومة المصرية في مفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي للتعجيل بتسليمها شرائح متأخرة من قرض قيمته ثلاثة مليارات دولار، قد يرتفع ليصل إلى عشرة مليارات دولار، ويبدو مسكنا اقتصاديا مهما.

◙ الدول تدفع ثمنا باهظا أحيانا للدفاع عن مصالحها الحيوية، لكن لن تستطيع دفع هذا الثمن مرات عدة لعقود طويلة، ما يحرّضها على التفكير في خطط أقل تكلفة

خرج الحديث عن إنقاذ مصر وعدم تركها نهبا لأزمة اقتصادية قاسية عقب حرب غزة من الغرف المغلقة، وأخذ منحنى متصاعدا بعد تهديدات مبطنة من القاهرة بأن أي تهجير قسري للفلسطينيين في رفح إلى سيناء يمكن أن يؤدي إلى تهجير مضاد عبر البحر المتوسط لمئات الآلاف من ملايين اللاجئين والمقيمين على الأراضي المصرية منذ سنوات ومن جنسيات مختلفة ويبحثون عن فرصة للاتجاه شمالا.

وصلت هذه الرسالة للكثير من القادة الأوروبيين بعد حرب غزة، واستشعروا خطرا حقيقيا يمكن أن يحيق بهم إذا نُفّذ هذا السيناريو أو جزء منه، بعدها توالت الوعود البراقة لمصر، وفي غالبيتها لا زالت حبرا على ورق، غير أن التفكير فيها أمر إيجابي، ويعزز اليقين شبه الرسمي بأن الأزمة الاقتصادية لن تنال من الدولة المصرية، لأن أوروبا ومعها دول الخليج لن تتحمل تبعاتها السلبية.

احتل هذا المنطق حيزا كبيرا في توجهات رؤساء مصر، وعلى أساسه لم يشكل تبني بعض السياسات الاقتصادية الخاطئة إزعاجا لهم، وكان الإفراط في الاقتراض أحد مظاهر هذا التوجه، فهناك ثقة في عدم قدرة دول كثيرة تحمل انهيار بلدهم، إلى أن حدثت موجة الثورات العربية وروافدها المعروفة، وكانت مصر من الدول المرشحة للدخول في خضم الفوضى القاتمة، ضمن دول أخرى اشتعلت النيران فيها.

لم تفلت مصر من هذا الشبح لأن الدول الغربية كانت ممانعة للزج بها في مجال الفوضى، بل لأن قيادتها العسكرية حمتها منه بإجراءات مختلفة، وكانت هناك دول خليجية مهمة أسهمت بدور معتبر في الممانعة، وعندما دخلت الدولة حربا طويلة ضد جماعة الإخوان وقوى إرهابية كان حدوث الانفلات قريبا ولم تتدخل الدول الأوروبية لإبعاده عنها، بمعنى أنها لم تكن رافضة تحمل ضريبة انهيار مصر آنذاك.

◙ كل المؤشرات تحمل ملامح خطورة اقتصادية بالغة، لكن هناك ترتيبات لخطة إنقاذ خارجية قبل أن يصبح ما ينجم عن الأزمة كارثيا على مصر وغيرها

ما الذي تغير وجعل دول الاتحاد الأوروبي تفكر جديا الآن في تقديم مساعدات لأجل إنقاذ مصر، وقيام بعض وسائل الإعلام الغربية بالدفاع عن ذلك؟

يمكن فهم معالم التغير من خلال زوايا عدة، أبرزها أن النظام المصري فهم الديناميكيات التي تعمل بها القوى الكبرى وحصل على أدوات مضادة للتأثير على مصالحها، بعضها يتعلق بوجود أجهزة ردع، مثل ورقة اللاجئين، والآخر له صلة بتنويع العلاقات مع قوى مختلفة وعدم حصرها في النطاق الغربي، ما يشير إلى أن انهيار مصر سوف تكون له تكلفة عالية في ظل الموقع الجغرافي الحيوي.

كما أن تجارب الفوضى المتباينة ليست خلّاقة بالنسبة إلى الغرب في كل من العراق وسوريا واليمن وليبيا والصومال، ودخول مصر في زمرة المنظومة المختلة يفتح الطريق أمام عدم حصر الصراعات داخل دولها المعتلة، فمصر أكبر من كونها دولة تحوي كتلة بشرية تتجاوز المئة مليون نسمة أو تحتل موقعا متميزا في خارطة الشرق الأوسط، هي دولة أصبح أمنها مرتبطا بأمن دول أخرى.

قادت الأزمة الاقتصادية بجوانبها المتشابكة في مصر والتفكير في تقديم مجموعة مساعدات أوروبية إلى نقطة مركزية تسيطر حتى الآن على عقل النخبة السياسية في القاهرة، وتقول إن قدر بلدهم ألا ينهض ويصبح دولة متقدمة أو يسقط في فخ الفوضى، وحاول النظام المصري الحالي كسر هذه الحلقة، فينهض ولا يسقط.

يبدو أن المعطيات الراهنة سوف تعيد الوضع إلى المعادلة الأصلية السابقة، فكل المؤشرات تحمل ملامح خطورة اقتصادية بالغة، لكن هناك ترتيبات لخطة إنقاذ خارجية قبل أن يصبح ما ينجم عن الأزمة كارثيا على مصر وغيرها.

◙ ملامح الإنقاذ بدأت تظهر في تصريحات أوروبية حول تقديم حزمة مساعدات في شكل استثمارات، وتكشفت في مواقف أميركية داعمة للحكومة المصرية في مفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي

مهما كان غضب بعض الدول الغربية من النظام المصري لن يمنعها من تقديم مساعدات للدولة ومنع تدهورها، وهذا فحوى تقرير “إيكونوميست” بشأن خطة الإنقاذ المطلوبة، وهو الأمر الذي يجعل القاهرة أقل انزعاجا من المخاطر الخارجية التي تنطوي عليها الأزمة الاقتصادية، ففي لحظة معينة يمكن أن تتدفق مساعدات عاجلة.

ما يزعج بعض الخبراء حدوث تدهور سريع في الأوضاع الاجتماعية وما يمكن أن تحمله من انعكاسات قبل وصول المساعدات ودخولها حيز التنفيذ أو عدم القدرة على مساهمتها في الإنقاذ الحقيقي للدولة، فقد يتم توجيه قسم كبير منها إلى مشروعات تنموية عملاقة، كما حدث مع المساعدات الخليجية التي تلقتها مصر عقب سقوط نظام الإخوان منذ حوالي عشر سنوات، وهي مشروعات لا تصب فوائدها بشكل مباشر على شريحة كبيرة من المواطنين.

إذا كان إنقاذ مصر هدفا أوروبيا، فإن إنقاذها داخليا هدف النظام الحاكم فيها حاليا، ولن تصبح المساعدات والاستثمارات والقروض الخارجية مجدية ما لم يقم النظام بإيجاد حلول عملية للأزمة الاقتصادية، فلن تستطيع الدول المعنية بالإنقاذ الالتزام بهذه السياسة فترات طويلة، ما يفرض عليها التفكير في وضع ضوابط صارمة لوصول مساعداتها إلى الأهداف التي تسهم في تقليل المخاوف من تدهور متوقع، وربما البحث عن بدائل أخرى للتخلص من صداع مزمن اسمه انهيار مصر.

تدفع الدول ثمنا باهظا أحيانا للدفاع عن مصالحها الحيوية، لكن لن تستطيع دفع هذا الثمن مرات عدة لعقود طويلة، ما يحرّضها على التفكير في خطط أقل تكلفة، فالتدخل لإنقاذ مصر هذه المرة لا يعني تكرارها لاحقا مع الشكوك المتزايدة حول تحولها إلى ورقة يتم الاستثمار فيها من جانب حكومات مصرية متعاقبة.

9