باي باي بلاسخارت

ها هي بلاسخارت تودع العراقيين بعد أن ذاقت طعم حلويات "الدهينة" في رسالة توحي بأنها كانت طوال خمس سنوات تشعر بمعاناة العراقيين وبؤسهم.. ولكن متى كانت بلاسخارت تهتم بمعاناة العراقيين.
السبت 2024/02/17
حان الوقت لنقول وداعاً

الفارق بين الزمنين أكثر من مئة عام، كانت الحادثة الأولى حين تناولت المس بيل السكرتيرة الشرقية للسفارة البريطانية في العراق قدحاً من “شربت الحاج زبالة” في شارع الرشيد ببغداد، وبين الحادثة الثانية لجينين بلاسخارت ممثلة الأمم المتحدة في العراق وهي تلتهم قطعة من حلويات “دهينة أبوعلي” الشهيرة في النجف حين وجدتها فرصة للتشبّه بالعراقيين بطريقة أكل “الدهينة” عن طريق اليدين دون استعمال الملعقة أو الشوكة.

يبدو أن بلاسخارت أرادت أن تترك انطباعاً بحسن السلوك يتذكرها به العراقيون عند رحيلها.

قبل بضعة أشهر وتحديداً في آب – أغسطس 2023 نشرت صحيفة “العرب” مقالاً بعنوان “هل حان موعد استبدال بلاسخارت في العراق؟” تحدثت فيه عن قرب استبدال الممثلة الأممية في العراق بعد ما يقارب من خمسة أعوام من عملها.

قرار التنحي لبلاسخارت أثار سؤالاً فيما إذا كان الأمر تم بإرادتها أم بتوجيه من الأمين العام للأمم المتحدة خصوصاً مع قرب إعلان ترشيح سفيرة أميركية جديدة في العراق

كان المقال يتحدث عن معلومة وليس تحليلا أو استنتاجا لقرار الاستبدال بعد وصول رسائل سياسية من دول الاتحاد الأوروبي والطلب إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش باستبدال ممثلته، ظن البعض أنها مزحة أو كلام صحف صفراء لجذب القراء أو حتى خبرا مفبركا.

بعبارات مؤثرة وحزينة كانت بلاسخارت تُلقي كلماتها الأخيرة عن العراق أمام مجلس الأمن الدولي معلنة مغادرة منصبها قريباً، في إعلان مفاجئ للعراقيين والعالم لا يُعرف إذا كان تطوراً طبيعياً لمتغيرات الوضع السياسي والأمني في العراق، أم أنه جاء بسبب فضيحة فساد موظفي الأمم المتحدة في العراق الذي أثارته صحيفة “الغارديان” البريطانية حول تقاضي موظفين في الأمم المتحدة رشاوى من رجال أعمال ومستثمرين لقاء منحهم صفقات الإعمار والمساعدات للعراق التي تأتي عن طريق الأمم المتحدة والمانحين.

قالت بلاسخارت في خطابها الوداعي “في ديسمبر – كانون الأول 2018 وصلنا إلى بغداد والآن بعد خمس سنوات حان الوقت للقول وداعاً، وأتوقع أن أغادر منصبي في نهاية مايو – أيار، ذلك الأمر ليس سهلاً وفي السراء والضراء أصبح العراق ببساطة جزءاً مني”.

قرار التنحي لبلاسخارت أثار سؤالاً فيما إذا كان الأمر تم بإرادتها أم بتوجيه من الأمين العام للأمم المتحدة خصوصاً مع قرب إعلان ترشيح سفيرة أميركية جديدة في العراق.

عندما انتشرت صورة بلاسخارت وهي تتنقل بالتوك توك بين جموع متظاهري تشرين في الوقت الذي كانت أرصفة شوارع ساحة التحرير مبللة بدماء المتظاهرين وجثثهم المحترقة بالدخانيات، كانت هناك عاصفة من الانتقادات اللاذعة تلاحق الممثلة الأممية وهي تلتقي طرفي الصراع القاتل والضحية على حد سواء، حتى راح البعض يقول إنها التقت بالطرف الثالث الذي كان يقتل المتظاهرين غير مبالية بالدور الذي يجب أن تضطلع به.

يبدو أن بلاسخارت أرادت أن تترك انطباعاً بحسن السلوك يتذكرها به العراقيون عند رحيلها

قبل ذلك كانت هناك عواصف من الانتقادات واجهتها بلاسخارت وهي تتراقص بفروها على أرض مكسوّة بالثلج في كردستان العراق، في الوقت الذي كان فيه عشرات الآلاف من النازحين يموتون تجمداً من البرد في قلب العواصف الثلجية. كان النقد يتلخص بالدور المفترض الذي يجب أن يثير اهتمام ممثلة المنظمة الأممية في العراق وإن كانت لا تهتم لقضايا النازحين أو حقوق الإنسان في هذا البلد. فيما راح المدافعون عن بلاسخارت إلى صواب الرأي القائل إن الأحداث السياسية ومتغيرات الحكومات المتعاقبة هي المسؤول عن نتائج ما يحدث في هذا البلد من أزمات ونزوح الملايين المكدسين في مخيمات منصوبة لهم في الأراضي الجرداء، وكأنهم ليسوا من فصيلة البشر، وكما ضمن حقوقهم الدستور الذي صوّتوا عليه عام 2005 أو تصرفات الحكومات المتعاقبة في عدم توفير فرص العمل وانتشار الفقر وشيوع الفساد وتردي الخدمات، وأسباب كثيرة جعلت من الشباب العراقي ينتفض على حكوماته، فليس من حق الشامتين إلقاء اللوم أو تذويب كل مشاكل العراق ورميها برأس الأمم المتحدة.

يشير أرشيف الأمم المتحدة إلى صدور أكثر من 20 قرارا في الفترة بين عامي 2003 و2020 تبناها مجلس الأمن حول العراق، بينها قرارات مخصصة لتحديد واجبات ومهام الأمم المتحدة لمساعدة العراق، بما فيها مساعدته في تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان وبناء نظام قضائي فعال وتحقيق المصالحة الوطنية من أجل وضعه على طريق الاستقرار، لكن المضحك المبكي أن أغلب تلك الوعود البراقة ظلت حبراً على ورق وأصبحت خطابات بلاسخارت أمام مجلس الأمن الدولي مكررة في كل مناسبة لتجعل العراقيين ضحايا دائمين داخل بلدهم دون حلول حين ظلوا يدفعون أثمانا قاسية لحياتهم البائسة.

ها هي بلاسخارت تودع العراقيين بعد أن ذاقت طعم حلويات “الدهينة” من محافظة النجف لترسل رسالة أنها كانت طوال خمس سنوات تشعر بمعاناتهم وبؤسهم، ولكن متى كانت بلاسخارت وهي الحزينة من شماتة الصحافة العراقية لرحيلها، تهتم أو تشعر بمعاناة العراقيين؟

8