مسؤولية الحكومة المصرية والمواطن تضامنية

المشكلة في مصر تتخطى شح العملات الصعبة وتتعلق بافتقاد فئة من المواطنين المسؤولية وقت الأزمات، فالتعامل مع الحكومة على أنها "بقرة" تقدم اللبن دون تقديم ما يكفي لاستدراره يؤدي إلى اختفائه.
الثلاثاء 2024/02/06
لم يعد هناك وقت لتبادل التهم

كل حكومات الدول التي تواجه أزمات اقتصادية ظالمة ومظلومة أيضا في نظر شريحة من مواطنيها، لأنها لم تتبن خطوات تخفف من حجم الضغوط الواقعة عليهم، ومهما اتخذت من سياسات إيجابية ولم ترفع عن كاهلهم المعاناة فهي مقصرة وعاجزة، لكن لا أحد يتحدث عن المواطن الذي يبدو مضطهدا ومغلوبا على أمره.

قامت الحكومة المصرية بالكثير من الخطوات لمعالجة الأزمة الاقتصادية ووقف تداعياتها، إلا أنها أخفقت في كل مساعيها حتى الآن، وتتحمل جانبا من الفشل بسبب تخبط تصوراتها وعدم قدرتها على توفير حلول جذرية واللجوء كثيرا إلى مسكنات تمتص بها الصدمات والغضب المكتوم في وجدان شارع يُلقي طوال الوقت همومه على حكومة لا يستطيع التخلص منها وتكليف أخرى عسى أن تصلح من أمره.

تحدث الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي عمّا تقوم به الحكومة من تصرفات وتتخذه من إجراءات لتخفيف المعاناة عن الناس، وربما كان الوحيد الذي تحدث بصراحة عن المسؤولية التشاركية بين الحكومة والمواطن مباشرة، وتعامل البعض مع تصريحاته التي تطرق فيها إلى الزيادة السكانية وما التهمته من جهود تنموية على أنها وسيلة للتنصل من إيجاد حلول عاجلة، كما نظروا إلى مطالبته بالتقشف على أنه نوع من إعفاء الحكومة من المسؤولية، لأنها متهمة بالتبذير من قبل المواطنين.

◙ يعد فك الارتباط السلبي بين الجانبين من التحديات التي تواجه النظام المصري، وعليه التفكير في إيجاد وسيلة أو وسائل تفصل اعتماد المواطن على الحكومة

إذا كان على الحكومة مراجعة رؤاها الاقتصادية لعلاج أوجه الخلل التي أدت إلى المأزق الراهن، فالمواطن المصري نفسه حلقة ضمن حلقات الحكومة وعليه واجبات والتزامات يجب أن يقوم بها، ومن المهم ألا يسقط من معادلة تصحيح الأوضاع، فهو جزء معتبر لمساعدة الحكومة في التجاوب مع سياسة شد الأحزمة على البطون والحد من التصرفات النهمة التي توحي وكأنه يعيش مجاعة، ما يضاعف من مكونات الأزمة ولا يسهم في حلها سريعا.

تتجاوز عملية تعديل الممارسات فكرة تنظيم النسل والتخلي عن زيادة عدد أفراد الأسرة كوسيلة لتحسين الدخل المالي لبعض الأسر، إلى ضبط منظومة سلوك المواطن في التعامل مع تداعيات الأزمة الاقتصادية وترشيد عاداته الغذائية والخدمية والترفيهية، وربما يكون هناك أناس لا يملكون قوت يومهم بشكل منتظم، لكن بعض العادات التي يمارسها تجار سلع لعبت دورا في زيادة حدة الأزمة مع أن انفلاتها سوف تتحمل نتائجه الحكومة والمواطنون والتجار الجشعون، ولا أحد سيكون بعيدا عن أيّ طوفان يجرف في طريقه مقومات أساسية في هيكل الدولة المصرية.

لم يعد هناك وقت لتبادل إلقاء التهم، فالحكومة مصممة على أن المواطن من الأسباب الرئيسية للبلاء والغلاء، والأخير لا يتخلى عن رأيه في أن تدشين مشروعات كبيرة في توقيت واحد أدى إلى الخانة الضيقة، ولن تفضي البراءة التي يتعامل بها كل جانب إلى حل للأزمة الاقتصادية وقد تزداد تعقيدا، لأن المثل الشعبي الشائع أيهما يسبق الآخر “الفرخة (الدجاجة) أم البيضة” لن يؤدي إلى وصول المجتمع إلى نتيجة.

فكلاهما مرتبط بالآخر، فلو أن الفرخة لم تضع البيضة لما جاءت، والعكس صحيح، وفكرة البحث عن أيهما مسؤول ترسخ الجدل العقيم والتدريب الذهني الذي يمارسه وزراء في الحكومة، وشريحة من المواطنين اعتادت على وصف الحكومة أنها ظالمة طوال الوقت، ومهما حققت من إنجازات أو شيّدت من مشروعات فعند أول محك ستتبيّن فيه أنها مقصرة ولم تقم بما ينتظره المواطنون وتتحول إلى طرف مدان.

قاد تشبع المواطنين بتقصير الحكومة ويقين الثانية بأن الناس لن يعجبهم أي شيء إلى ما يشبه الانفصام بينهما، فلا يسمع كلاهما الآخر أو يستجيب لتطلعاته المزيفة، وساهمت هذه الهوة في تفويت الفرصة على إصلاحات عدة، وبدت المطاردة الشهيرة بين “توم وجيري” أو القط والفأر مزمنة في التقاليد المصرية، فطوال الوقت الحكومة تطارد المواطن بالضرائب والرسوم المرتفعة وهو يطاردها بالتحايل على سياساتها والهروب بشتى الطرق مما هو مطلوب منه للحد من الأزمة الاقتصادية.

يكشف هذا التبسيط عن بُعد مهم في الأزمة التي تمر بها البلاد وخرجت عن إطارها التكاملي المفترض، ودخلت في مربع الهواجس والشكوك التي تعرقل قيام الحكومة بمهامها وتضع المواطن في خندق الرافض للتحمل، بما أوجد مخاوف من أن تتسبب هذه المسألة في تعطيل إجراءات يمكن أن تُتخذ لمنع تفاقم الأزمة، فعدم وجود تضامن أو تشارك بين الطرفين يجعل من أيّ حلول داخلية أو خارجية قليل الفائدة.

◙ إذا كان على الحكومة مراجعة رؤاها الاقتصادية لعلاج أوجه الخلل التي أدت إلى المأزق الراهن، فالمواطن المصري نفسه حلقة ضمن حلقات الحكومة وعليه واجبات والتزامات يجب أن يقوم بها

تتخطى المشكلة شُح العملات الصعبة وعدم كياسة التصورات الاقتصادية الرسمية، لكن أيضا تتعلق بافتقاد فئة من المواطنين المسؤولية وقت الأزمات العميقة، فالتعامل مع الحكومة على أنها “بقرة” تقدم اللبن دون تقديم ما يكفي لاستدراره يؤدي إلى ندرته ومن ثمّ اختفاؤه تدريجيا، ما يعني أن النظرة لرصد أخطاء الحكومة وتوجيه الاتهامات لها بالحق والباطل لن يعالجا الأزمة في مدى زمني قصير، ويدخلها دوامة من التراشقات، ما يقوض الأثر الإيجابي لأيّ مساعدات واستثمارات والسعي لتصحيح الأخطاء.

لخصت العبارة التي جاءت على لسان الفنان الراحل خالد صالح في فيلم “عمارة يعقوبيان” بشأن مسك المواطنين بطرف الجلباب الذي ترتديه الحكومة الكثير من المعاني السلبية التي تواجهها مصر، وعلى الرغم من التوجهات الليبرالية في الاقتصاد، فالمواطن لا زال قابضا على جلباب الحكومة التي أخفقت خطواتها في رفع الدعم وتبني سياسات ليبرالية في إخفاء هذه الظاهرة، ما يؤكد أن العلاقة بين الحكومة والمواطن أبدية، وطالما أن الأول يحصر واجبها في توفير عوامل راحته بلا أدنى مسؤولية منه سوف يستمر تخبط الاقتصاد وإن تم عبور الأزمة الحالية.

يعد فك الارتباط السلبي بين الجانبين من التحديات التي تواجه النظام المصري، وعليه التفكير في إيجاد وسيلة أو وسائل تفصل اعتماد المواطن على الحكومة، فقد ارتكبت حكومات سابقة أخطاء فادحة لتجنب الوصول إلى نقطة الفطام، وعندما شرع النظام الحالي في تحقيقها لم ينتبه إلى تعلق فئة كبيرة من المواطنين بثدي الحكومة، وبات تخفيف الاعتماد عليها عملية مضنية، تحتاج إلى أدوات منتجة لتحقق أهدافها.

ما لم يدرك كل طرف أن المسؤولية مشتركة ولا فضل لأحد على الآخر إلا بالعمل فإن لعبة الكر والفر التي تجري بينهما في العلن تارة والخفاء تارة أخرى لن تتوقف، ما يحول دون التوصل إلى علاج ناجز لأزمة اقتصادية كل ملامحها واضحة وطرق علاجها معروفة، غير أن القواسم المشتركة والتضامن والتعاون بين الحكومة والمواطنين غائبة، ما يجعل عبورها عصيا.

8