تحديات مصر الداخلية أثقل من الخارجية

مصر اعتادت العيش في خضم تعقيدات خارجية، لكن هذه هي المرة الأولى التي تجتمع عليها أزمات في فلسطين وليبيا والسودان وجنوب البحر الأحمر دفعة واحدة، فضلا عن أزمة سد النهضة.
الجمعة 2024/02/02
الاقتصاد مربط الفرس

تتألم الدول بسبب التحديات التي تواجهها في الداخل أو الخارج، وتتألم أكثر عندما تجتمعان معا، هكذا هو حال مصر، حيث تواجهها صعوبات إقليمية على جبهات متعددة، تحتاج إلى تعامل خاص ومواءمات سياسية تمكنها من تخطي العقبات، فهي تخوض حربا قاسية لتجاوز أزمة اقتصادية خانقة قد تكون لها نتائج سياسية واجتماعية، وربما أمنية، ما يجعل الأولى أخف وطأة من الثانية.

اعتادت مصر أن تعيش في خضم تعقيدات خارجية فترة طويلة، لكن هذه هي المرة الأولى التي تجتمع عليها أزمات في فلسطين وليبيا والسودان وجنوب البحر الأحمر دفعة واحدة، فضلا عن الأزمة الهيكلية المتعلقة بسد النهضة الإثيوبي وروافده.

مع كل هذه الأزمات وارتداداتها تستطيع القاهرة تفكيكها تدريجيا والحد من تداعياتها على الأمن القومي، إذا كانت الجبهة الداخلية صلبة ولديها مناعة كبيرة للمقاومة، وهو ما حدث منذ عقود عندما كانت مصر رأس الحربة في الصراع العربي – الإسرائيلي وما نجم عنه من انعكاسات متباينة جعلتها في حالة استنفار فترة طويلة.

◙ الأوضاع الاقتصادية انعكست عمليا على توجهات الحكومة المصرية، حيث وضعت قيودا على بعض التصورات التي تشير إلى خشونة ما يمكن تبنيه إزاء بعض الأزمات الإقليمية

لم تكن الأوضاع الاقتصادية جيدة في ذلك الوقت، وإن كانت في ظاهرها توحي بالاستقرار النسبي لأنها اعتمدت على مقومات مجانية وفرتها الدولة للمواطنين حتى اعتمدوا عليها تماما، وعقب انسحابها والتخلى عن المساعدات المقدمة شعرت شريحة كبيرة من المواطنين بمتاعب مزمنة، قادت إلى ما هو ظاهر على السطح من آلام مادية في حياة مواطنين يضغطون على الدولة حاليا لعلاجها.

يمثل الخلل أو الفجوة أزمة أكثر خطورة من جميع الأزمات الخارجية، لأن الاهتزاز يؤثر بقوة في قدرة الدولة على مواجهة التحديات الإقليمية، ما أفضى إلى زيادة التركيز على إيجاد حلول ناجعة للأزمة الاقتصادية قبل أن تنفلت من عقالها ويصبح التعامل معها عصيا على الحل، بالتالي تجد الدولة صعوبة بالغة في الحد من تأثيرات الخارج على الداخل الذي يتسبب اعتلاله في حدوث قابلية عالية للاختراق.

شدد الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في غالبية الخطابات السياسية التي يوجهها إلى مواطنيه على وحدة الجبهة الداخلية التي يؤدي تفتتها إلى سهولة تدميرها وتحمل نتائج سلبية لما يجري على جبهات خارجية عدة.

كل الدول التي تعاني من أزمات عميقة في المنطقة كانت مناعتها الداخلية هشة وإن كانت أحوالها الاقتصادية جيدة، ومن حسن حظ مصر أنها تتشكل من سبيكة سكانية متماسكة إلى حد بعيد، وما يظهر فيها من معالم فتنة طائفية هو محدود للغاية، ما يجعل لُحمتها الوطنية قوية إذا نجحت الحكومة المصرية في تخفيف حدة الأزمة الاقتصادية، أو على الأقل استعادة الأمل في إمكانية تجاوزها قريبا.

يتمتع المصريون بقدرة على التحمل والصبر على البلاء، وبإمكانهم التكيف مع الصعوبات الداخلية والتكاتف خلف القيادة السياسية للتصدي لأزمات معيّنة يواجهها بلدهم، شريطة أن تملك هذه القيادة رؤية شاملة، وهو ما يتوفر على المستوى الأمني بما تحوزه مصر من قدرات عسكرية كبيرة تسمح لها بمجابهة المخاطر المحدقة بها.

يأتي النقص في توفير ضمانات كافية للثقة بالخطوات التي تتخذها الحكومة على الصعيد الداخلي، إذ شابها تذبذب الفترة الماضية، ولم تعد فئة كبيرة من المواطنين على يقين من وجود رؤية شاملة لمعالجة الخلل الاقتصادي، وبدأت تظهر أنواع مختلفة من التململ في الشارع تشير إلى عدم الموافقة على إجراءاتها القاسية، والتي أوصلت إلى الناس شعورا بتخبطها الإداري.

يكمن الخطر الذي تتخطى روافده الداخل في هذه الزاوية المنقوصة، والتي تؤثر على التعاطي مع الأزمات في المحيط الخارجي، فأي ارتباك في هذه الجبهة يمكن أن يعيق أجهزة الدولة عن إيجاد آليات مناسبة لمجاراة التطورات الخارجية المتلاحقة.

ومهما بلغ مستوى الفصل في المهام وتوزيع الاختصاصات بدقة وشطارة لدى الأجهزة التي تدير الأزمات الخارجية، فالأولوية لتخفيف غضب المواطنين، وأي تقدم يتم إحرازه في الخارج سيظل معلقا وترتهن قيمته الحقيقية بمدى الصلابة الداخلية.

تعمل أجهزة الدولة، أي دولة، في مسارات متوازية. ولا تعني أهمية مسار أن غيره لا قيمة له، ومصر لن تستطيع مجابهة كل المحاور الساخنة بفاعلية واستقرارها الداخلي على المحك، وعيونها مصوبة نحو المدى الذي تصل إليه الأزمة الاقتصادية.

المشكلة أنها لم تعد داخلية صرفة، فبها تقاطعات خارجية مع صندوق النقد الدولي، ودول قدمت قروضا مالية وأخرى وفرت مساعدات مادية مشروطة، وهناك استثمارات واعدة خملت أو تراجعت عندما استشعرت وجود تدهور اقتصادي ينعكس عليها.

يقول مصريون في نقاشاتهم الخاصة إن “مربط الفرس” هو كيفية إيجاد حل جذري لأم الأزمات، في إشارة إلى ما يمر به الاقتصاد من مطبات، حيث يعطل الاستفادة من تركيز أجهزة الدولة على إدارة أزمات أخرى، ويجعل الحكومة ذات قابلية للضغوط الشديدة، ويفتح الباب لعودة حركات احتجاجية تستفيد من الغضب المكتوم وتسعى لتفجيره.

◙ مع كل الأزمات وارتداداتها تستطيع القاهرة تفكيكها تدريجيا والحد من تداعياتها على الأمن القومي، إذا كانت الجبهة الداخلية صلبة ولديها مناعة كبيرة للمقاومة

هناك أيضا حزمة من المشكلات الاجتماعية ناجمة عن سوء أوضاع الاقتصاد، وتتحسب الحكومة لذلك بعد تزايد لافت في أسعار سلع وخدمات مختلفة، وشُح في العثور على منتجات أساسية، ما جعلها تظهر قدرا من الصرامة مع المتجاوزين، وهذه قد تكون محكومة بسقف معين، فلدى بعض الفاسدين أذرع يتم توظيفها لإرباك الدولة.

ولذلك فكل الطرق تؤدي إلى منح الأزمة الاقتصادية تركيزا فائقا، فتصورات بعض الدول التي نشبت بينها وبين مصر خلافات لا تتردد في الإشارة إلى هذه الأزمة، ما يوحي بأنها كابح أمام اتخاذ إجراءات خارجية حاسمة، لأنهم على دراية بصعوبة الأوضاع في الداخل، وما يمكن أن يحدثه الخلل فيه من تأثيرات قوية.

انعكست الأوضاع الاقتصادية عمليا على توجهات الحكومة المصرية، حيث وضعت قيودا على بعض التصورات التي تشير إلى خشونة ما يمكن تبنيه إزاء بعض الأزمات الإقليمية، وأسهمت في زيادة فائض الصبر عليها، طالما أن هناك قدرة على التحمل ولم تصل النتائج إلى المس مباشرة بالأمن القومي، الأمر الذي يمكن أن يحدث في أي وقت مع احتدام الأزمات التي تمر بها دول الجوار وتداخل صراعاتها، والتي قد تصعب السيطرة عليها لتعدد اللاعبين واختلاف مشاربهم وتضارب حساباتهم.

بدأت ملامح ارتفاع وزن أزمات الداخل مقارنة بالخارج تظهر في محدودية الحركة المصرية للانخراط السياسي في بعض الصراعات، إذ تستوجب المبادرات والمشاركات توفير سبل إنفاق مادية جيدة تفرضها الرعاية، ودعم قوى وحركات وأحزاب معينة تتبنى مقاربات القاهرة أو تؤيدها أو لا تلفظها، لأن الاستقرار الاقتصادي لا يقل أهمية عن الاستقرار السياسي والأمني.

8