النيجر ومالي وبوركينا فاسو تشكل فضاء إقليميا جديدا في غرب أفريقيا

حراك سياسي وتحولات أمنية وعسكرية تعيد خلط الأوراق.
الثلاثاء 2024/01/30
تعاضد في مواجهة التدخل الخارجي

تواصل الأنظمة العسكرية في مالي والنيجر وبوركينا فاسو استنكار ما تعتبره تأثيرا فرنسيا على المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس). والانسحاب من “إيكواس” هو أحدث خطوة في القطيعة مع الحلفاء التقليديين للدول الثلاث.

باماكو - تصدع جدار المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا “إيكواس” بانسحاب ثلاث دول منها وهي النيجر ومالي وبوركينا فاسو، بما قد يهيئ لتشكيل فضاء إقليمي جديد في المنطقة يتكون بالأساس من الدول التي تشهد حراكا سياسيا واجتماعيا وتحولات أمنية وعسكرية في سياقات تنافس القوى الكبرى على النفوذ بالمنطقة.

وقالت سلطات كل من النيجر ومالي وبوركينا فاسو في بيان مشترك الأحد، إن شعوبها تلاحظ أن المنظمة ابتعدت عن مُثُل آبائها المؤسسين وعن الوحدة الأفريقية.

وجاء في البيان “حرصا منهم على تحقيق التكامل بين دول المنطقة الفرعية ومدفوعين بمثل الأخوة والتضامن والمساعدة المتبادلة والسلام والتنمية، أصحاب السعادة الجنرال أبوبكر سانجولي لاميزانا، والجنرال موسى تراوري، والمقدم سيني كونتشي، على التوالي، رؤساء دول فولتا العليا (بوركينا فاسو الحالية)، ومالي والنيجر، مع اثني عشر (12) من أقرانهم، تم في 28 مايو 1975، في لاغوس، إنشاء المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، وبعد 49 عاما من الوجود، تلاحظ شعوب بوركينا ومالي والنيجر الباسلة بأسف شديد ومرارة وخيبة أمل كبيرة أن منظمتهم ابتعدت عن مُثُل آبائها المؤسسين وعن الوحدة الأفريقية” و”علاوة على ذلك، أصبحت المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، تحت تأثير القوى الأجنبية، التي خانت مبادئها التأسيسية، تشكل تهديدا لدولها الأعضاء وسكانها الذين من المفترض أن تضمن سعادتهم”.

وتابع البيان “الواقع أن المنظمة لم تقدم المساعدة إلى دولنا كجزء من كفاحنا الوجودي ضد الإرهاب وانعدام الأمن، والأسوأ من ذلك، عندما قررت دولنا أن تأخذ مصيرها بأيديها، اتخذت موقفا غير عقلاني وغير مقبول من خلال فرض عقوبات غير قانونية وغير مشروعة وغير إنسانية وغير مسؤولة، في انتهاك لنصوصها الخاصة، كل الأشياء التي أدت إلى زيادة إضعاف السكان الذين عانوا بالفعل من سنوات من العنف الذي فرضته جحافل إرهابية يتم التحكم فيها عن بعد”.

كسر جدار الصمت

التحولات جاءت لإعادة البناء وفق منظومة التحرر من التبعية الاستعمارية، وإعادة تحديد الأولويات في العلاقات الخارجية

شكل البيان الصادر في وقت واحد بكل من واغادوغو وباماكو ونيامي، حدثا مهما في منطقة الساحل والصحراء، وكسرا لجدار الصمت في ظل المواجهات المفتوحة التي يشهدها الإقليم على أكثر من صعيد وخاصة من حيث الصراع الجيو السياسي والتحولات الإستراتيجية المهمة التي تعتبر انعكاسا للاستقطاب الحاد الحاصل حاليا على مستوى العالم ككل.

وبالمقابل، أكدت المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا أن بوركينا فاسو ومالي والنيجر لا تزال أعضاء مهمين فيها وأنها لا تزال مصممة على إيجاد حل تفاوضي للمأزق السياسي في هذه البلدان، وقالت إنه قد لفت انتباهها بيان صحفي بثه التلفزيون الوطني لمالي والنيجر يعلن قرار بوركينا فاسو ومالي والنيجر بالانسحاب من الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، ولكنها لم تتلق بعد إخطارا رسميا مباشرا من الدول الأعضاء الثلاث بشأن نيتها الانسحاب من المجموعة.

وأشارت مفوضية المجموعة إلى أنها قد عملت تحت قيادة هيئة رؤساء الدول والحكومات، بجد مع هذه البلدان من أجل استعادة النظام الدستوري، وتابعت أن بوركينا فاسو والنيجر ومالي تبقى دولا أعضاء مهمة في الجماعة، وتظل السلطة عازمة على إيجاد حل تفاوضي للمأزق السياسي، مردفة أنها “لا تزال قيد نظر التطورات وستدلي بالمزيد من البيانات مع تطور الوضع”.

والمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا والتي تعرف اختصارا بالفرنسية بـ”سيدياو” وبالإنجليزية “إيكواس” هي منظمة سياسية واتحاد اقتصادي إقليمي يتكون من 15 دولة تقع في منطقة غرب أفريقيا، أعلن عن تأسيسها في الخامس والعشرين من مايو 1975 بموجب اتفاقية لاغوس، ويقع مقرها في أبوجا عاصمة نيجيريا، ولغاتها الرسمية هي الإنجليزية والفرنسية والبرتغالية.

وتنضوي تحت لواء المجموعة دول الرأس الأخضر وغامبيا وغينيا وغينيا بيساو وليبيريا ومالي والسنغال وسيراليون وبنين وبوركينا فاسو وغانا وساحل العاج والنيجر ونيجيريا وتوغو، وقد انضمت كُل هذه الدول إلى المجموعة في دورتها التأسيسية في مايو 1975، باستثناء الرأس الأخضر التي انضمت سنة 1976، فيما كانت موريتانيا دولة عضوا في المجموعة إلى غاية سنة 2000، حين انسحبت من المجموعة، وقد أعلنت عن نيتها الخروج من المجموعة منذ ديسمبر 1999.

"إيكواس" مارست نوعا من ازدواجية المعايير في تعاملها مع انقلابات دول الساحل الثلاث

وتضم المجموعة عددا من المؤسسات من بينها المفوضية، ومحكمة العدل الخاصة بالمجموعة، وبرلمان المجموعة، وبنك إيكواس للاستثمار والتنمية (EBID)، ومنظمة الصحة لغرب أفريقيا (WAHO)، ومجموعة العمل الحكومية الدولية لمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب في غرب أفريقيا (GIABA). كما تضم المجموعة تكتلين اقتصاديين نقديين ضمنها هما الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب أفريقيا (UEMOA)، والمنطقة النقدية لغرب أفريقيا (WAMZ).

ويرى مراقبون أن قرار مالي والنيجر وبوركينا فاسو كان منتظرا نظرا لما يرى فيه حكامها العسكريون من تدخل في شؤونها الداخلية بلغ حد التهديد بالتدخل العسكري في النيجر على إثر الإطاحة بنظام الرئيس محمد بازوم في السادس والعشرين من يوليو 2023.

وبعد مرور 5 أشهر على الانقلاب، تراجعت حدة خطاب “إيكواس”، حيث أعلنت في الرابع عشر من ديسمبر الماضي اعترافها بالتحول الحاصل في البلاد، وبأن بازوم لم يعد رئيسا للبلاد، وشكلت لجنة رئاسية للتفاوض مع المجلس العسكري في نيامي.

وكانت الدول الثلاث شهدت انقلابات متتالية، أولها في مالي 2021، والثاني في بوركينا فاسو 2022 والثالث في النيجر 2023، وتبين من الخطاب السياسي للمجالس العسكرية التي وصلت إلى الحكم أنها لا تنفذ خطة من أجل السلطة فقط، وإنما لديها برامج ورؤى سياسية وإستراتيجية مرتبطة بعودة شعارات التحرر الوطني التي سادت القارة السمراء ودول العالم الثالث في خمسينات وستينات القرن الماضي، وإعلان القطيعة مع فرنسا كدولة استعمارية لم تعترف بأن تلك الدول قد خرجت من عباءتها منذ أن استقلت عنها، وكذلك بالاتجاه نحو بناء علاقات تحالفية مع روسيا الساعية بقوة إلى تكريس نفوذها في المنطقة.

وفي أوائل أغسطس الماضي، أكّد مفوض الشؤون السياسية والسلام والأمن في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا “إيكواس” عبدالفتاح موسى أنّ “قادة الدفاع في دول غرب أفريقيا وضعوا خطة لتدخل عسكري محتمل في النيجر في حالة عدم تنحي قادة المجلس العسكري الانتقالي”، لكن التطورات اللاحقة، ومنها التأييد الشعبي الجارف للسلطات الجديدة، والتحذير من إمكانية انتشار الفوضى بما يدفع نحو اتساع دائرة الإرهاب والهجرة غير الشرعية نحو الشمال، أدت الى كبح جماح الأطراف الداعية إلى اعتماد القوة في إعادة نظام بازوم إلى الحكم.

ويشير المراقبون إلى أن “إيكواس” مارست نوعا من ازدواجية المعايير في تعاملها مع انقلابات دول الساحل الثلاث، إذ إنها فرضت عقوبات اقتصادية قاسية على مالي والنيجر مع تعليق عضويتيهما، في حين اكتفت بتعليق عضوية بوركينا فاسو، دون فرض عقوبات عليها، وكانت إجراءاتها مخففة على غينيا كوناكري كذلك.

ويضيف المراقبون أن تلك المواقف لا يمكن فصلها عن مواقف دول أخرى في مقدمتها فرنسا الخاسر الأكبر من الانقلابات الثلاثة، والتي كانت أكثر حدة في تعامها مع التطورات التي شهدتها باماكو ونيامي.

والخميس الماضي، أعربت منظمة إيكواس عن أسفها من تأجيل جولة المفاوضات مع السلطات النيجرية، المقررة لذلك اليوم بسبب ما وصفته بـ”مشاكل فنية مرتبطة بالطائرة التي استأجرها وفد إيكواس”.

وأكدت المنظمة أنها تعتزم إعادة تحديد موعد جديد لاستئناف المناقشات مع السلطات النيجرية في أقرب وقت ممكن، مشيرة إلى التزامها بإيجاد تسوية سياسية للأزمة في النيجر عن طريق التفاوض.

وجاء ذلك، بعد اتهام رئيس الوزراء رئيس الحكومة الانتقالية علي محمد الأمين زين لإيكواس “بسوء النية في التعامل مع النيجر، ومحاولة إخضاعها لأجندات خارجية معروفة”.

قوى جديدة على الخط

السلطات العسكرية في الدول الثلاث ترغب في ضرب عدد من العصافير بحجر واحد، ومن ذلك التنصل من العقوبات الاقتصادية، ومن وعودها بتنظيم الانتخابات والعودة إلى المسارات الديمقراطية السابقة

تزامن تأجيل المناقشات لرفع العقوبات عن النيجر، مع إعلان رئيسي كوت ديفوار ونيجيريا سفرهما إلى باريس في زيارة خاصة، سيتم من خلالها استضافتهما من قبل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لمناقشة التطورات السياسية في النيجر.

ويشير محللون إلى أن السلطات العسكرية في الدول الثلاث ترغب في ضرب عدد من العصافير بحجر واحد، ومن ذلك التنصل من العقوبات الاقتصادية، ومن وعودها بتنظيم الانتخابات والعودة إلى المسارات الديمقراطية السابقة، فقد أجلت سلطات مالي التي لا تزال تتزعم البلاد منذ نحو 4 سنوات بقيادة العقيد عاصيمي غويتا، موعد الانتخابات بعد أن كان مقررا لشهر فبراير القادم، ودون أن تحدد موعدا جديدا، وأعلنت سلطات النيجر بزعامة الجنرال عبدالرحمن تياني أنها ستستمر في الحكم لمدة ثلاث سنوات، ومن غير المرجح أن تحدد أي موعد للاستحقاق الانتخابي، فيما كان النقيب إبراهيم تراوري الرجل القوي في بوركينا فاسو أعلن بعد توليه السلطة في الثلاثين من سبتمبر 2022، أنه سيفي بالالتزامات التي قطعها سلفه العقيد بول هنري سانداوغو داميبا، بإجراء انتخابات في صيف 2024، لكن لا توجد أي مؤشرات جدية على ذلك.

ويفسر أنصار السلطات الجديدة في البلدان الثلاثة، بأنه جاءت لتصنع تحولات جذرية في إعادة بناء دولها وفق منظومة التحرر من التبعية للقوى الاستعمارية، وتحرير الثروات والموارد، ومكافحة الإرهاب والفساد، وإعادة تحديد الأولويات في العلاقات الخارجية، لاسيما بعد التأكد من أن التجارب الديمقراطية في تلك البلدان كانت مغشوشة من الأساس ولم تعبر عن إرادة الشعوب، وإنما عملت على تكريس سلطات تدور في فلك القوى الكبرى وتخدم مصالح أطراف بعينها داخليا وخارجيا.

وكانت مالي والنيجر وبوركينا فاسو وقّعت منتصف سبتمبر الماضي اتفاقا أمنيا تعهدت فيه بمساعدة بعضها البعض في حالة وقوع أي تمرد أو عدوان خارجي، وجاء في ميثاق الاتفاق المعروف باسم تحالف دول الساحل أن “أي اعتداء على سيادة وسلامة أراضي طرف أو أكثر من الأطراف الموقعة سيعتبر عدوانا على الأطراف الأخرى”، وأضاف أن الدولتين الأخريين ستقدمان المساعدة بشكل فردي أو جماعي، بما في ذلك استخدام القوة المسلحة.

وفي الثاني من ديسمبر 2023 أعلنت حكومتا بوركينا فاسو والنيجر انسحابهما من تجمع دول الساحل الخمس، بعد أن كانت مالي قد انسحبت من التجمع نفسه في الخامس عشر من مايو 2022.

ولا يستبعد المتابعون للأحداث في المنطقة أن تشهد الفترة القادمة تشكيل فضاء إقليمي جديد برؤية سياسية واقتصادية جديدة، وببرنامج عمل أكثر إيجابية في التعامل مع القوى الإقليمية المؤثرة، وفي مقدمتها المغرب الذي فتح المجال واسعا أمام دول الساحل بمبادرة الطريق إلى الأطلس التي أعلنها العاهلى المغربي الملك محمد السادس في السادس في نوفمبر الماضي، حين دعا إلى تمكين مجموعة دول الساحل الأفريقي من الولوج إلى المحيط الأطلسي للاستفادة منه، معتبرا أن “نجاح هذه المبادرة يبقى رهينا بتأهيل البنيات التحتية لدول الساحل، والعمل على ربطها بشبكات النقل والتواصل بمحيطها الإقليمي”.

وفي الثالث والعشرين من ديسمبر الماضي، اتفق وزراء دول الساحل الأفريقي، خلال اجتماعهم بمدينة مراكش المغربية، على إنشاء فريق عمل وطني في كل دولة لإعداد واقتراح سبل تفعيل المبادرة، وشدد وزراء خارجية مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد، إلى جانب المغرب، على الأهمية الإستراتيجية التي تكتسيها هذه المبادرة، والتي “توفر فرصا كبيرة للتحول الاقتصادي للمنطقة برمتها، بما ستسهم فيه من تسريع للتواصل الإقليمي وللتدفقات التجارية ومن رخاء مشترك في منطقة الساحل”.

7