سنستمر في طرق جدران العقل

الكثير من التغطية الإعلامية العربية وكتابات المحللين السياسيين، خصوصا خارج قطاع غزة، يغلب عليها الخطاب العاطفي والانفعالي دون طرح رؤية عقلانية واقعية لكيفية وقف العدوان ومرحلة ما بعده.
الجمعة 2024/01/26
لجوء في قلب اللجوء

الحرب المعممة على كل الشعب الفلسطيني، وخصوصاً جرائم الإبادة الجماعية في غزة وصمود الشعب وما يعانيه القطاع من أوضاع مأساوية غير مسبوقة في التاريخ المعاصر وصمود المقاتلين، أثبتت أن الكيان الصهيوني ما كان له أن يستمر دون دعم وحماية واشنطن والغرب؛ كل ذلك يبرر أية كتابة أو حديث عن عظمة الشعب وصموده وعن الإجرام الصهيوني، بل تعتبر الكتابة والحديث عن هذه القضايا واجبا وطنيا وقوميا وإسلاميا وأمميا، حتى وإن كان ذلك في سياق أضعف الإيمان.

لكن في نفس الوقت وحتى لا تجرفنا العواطف بعيدا ونترك للآخرين تحديد مستقبل قضيتنا الوطنية ومستقبل قطاع غزة وندعْهم يمرروا علينا مفاهيم ومصطلحات وتصورات لوقف العدوان ومستقبل غزة تشتت انتباهنا وتعيشنا في حالة تيه وفقدان البوصلة، يجب التعالي على الجراح وكبح العواطف وإعمال العقل في كل ما يجري وتطبيق “فقه الأولويات”. وفي الحالة الراهنة فإن الأولوية هي كيفية وقف العدوان وإنقاذ ما تبقى من قطاع غزة شعباً وأرضاً وإفشال مخطط التهجير، دون أن يكون في ذلك أي مساس بشرعية المقاومة أو تراجع عن الأهداف الوطنية الإستراتيجية كتحرير فلسطين وتحرير كامل الأسرى في سجون الاحتلال ووقف الاستيطان وما يتعرض له المسجد الأقصى من انتهاكات. فهذه أمور يمكنها التأجيل في هذه المرحلة. ووقف العدوان وتثبيت الشعب على الأرض وتعزيز صموده يبقي القضية الوطنية حية ويفتح آفاقا لتسوية سياسية عادلة توظف حالة التفاعل الإيجابي الدولي مع فلسطين.

◙ مخطط دولة غزة الموسعة باتجاه سيناء مطروح منذ سنوات عند المخططين الإستراتيجيين الإسرائيليين وسبق أن تحدث عنه المستشار الأمني الإسرائيلي أيغورا أيلاند

الكثير من التغطية الإعلامية العربية وكتابات المحللين السياسيين وخصوصاً خارج قطاع غزة يغلب عليها الخطاب العاطفي والانفعالي دون طرح رؤية عقلانية واقعية لكيفية وقف العدوان ومرحلة ما بعده، بل يعتبر البعض أن الحديث في هذه الأمور الآن يعتبر خذلانا للمقاومة وتشكيكا في قدرتها على الانتصار وحسم المعركة لصالحها! حتى الطبقة السياسية في منظمة التحرير الفلسطينية فهي وإن كانت تدين العدوان وتطالب بوقفه وترفض التعاطي مع الموقف الأميركي إلا أنها تفتقر إلى رؤية عملية لمرحلة ما بعد الحرب ومترددة ومتخوفة من تحمل مسؤولية القطاع وحدها دون توافق عربي ودولي وموافقة حركة حماس التي لا تزال تسيطر على أجزاء من القطاع.

أيضا القيادة السياسية لحركة حماس في قطر تقوم بدور الوسيط وتقدم مقترحات لصفقات هدنة، لكن القرار النهائي يبقى في يد الجناح العسكري في غزة. وفي جميع الحالات لا توجد رؤية أو موقف وطني مشترك ولا يسأل أحد الشعب الفلسطيني في غزة عن رأيه سواء في مجريات الحرب أو ما بعدها، وفي كل مقترحات وقف العدوان لا أحد يأخذ في الاعتبار أو يحسب حساب عشرات الآلاف من الشهداء وأضعافهم من الجرحى وما تعرض له القطاع من تدمير شامل!

أكثر من مئة يوم مرت على الحرب العدوانية ولا تبدو في الأفق نهاية لها ولا أحد يعرف ماذا يريد بنيامين نتنياهو. حتى التوصل إلى صفقات تبادل أسرى لا يعني نهاية الحرب التي يريد نتنياهو أن تطول إلى حين تنفيذ ما يخطط له. وقد سبق أن كتبنا بأن هذه مجرد جولة من حرب ممتدة منذ 1948 ولم تقطعها إلا سنوات معدودة (1994 – 2000) بعد توقيع اتفاق أوسلو سادت فيها حالة اللاحرب واللاسلم. وبالتالي حتى لو أعلن العدو وقف إطلاق النار ووقف الحرب على غزة، فالحرب والصراع سيستمران بين الفلسطينيين والإسرائيليين في غزة والضفة والقدس وخارجهما، بل ستشتد أوزار الحرب والصراع بعد ما جرى في غزة لأن ما جرى أضفى على الصراع بعدًا دينيّا وثقافيّا واجتماعيّا وولّد أحقادا لن تزول قريبا.

بعد أكثر من مئة يوم لا يستطيع الكيان الصهيوني الزعم أنه انتصر ولا تستطيع حركة حماس وفصائل المقاومة القول بأنهما انتصرتا، والنصر هنا بمعني تحقيق الأهداف الإستراتيجية لكل منهما وهي أهداف مبهمة عند كليهما. وهناك فرق بين الانتصار في جولة أو معركة في الحرب والانتصار بمعنى إخضاع الطرف الثاني واستسلامه.

يمكن للعدو أن يتحدث عن إنجازات حققها كتدميره 80 في المئة من المساكن وتخريب البنية التحتية والمدارس والمستشفيات وقتل حوالي 25 ألف شخص والتسبب في فقدان 8 آلاف شخص وجرْح 60 ألف فلسطيني وإضعاف القدرات العسكرية لحماس وتجويع الشعب… إلخ. ولكنه لا يستطيع الزعم بأنه حقق أهدافه التي أعلنها في بداية هذه الجولة من الحرب؛ إطلاق سراح أسراه عند حماس وإضعاف قدراتها العسكرية والقضاء على قياداتها. وفي اعتقادنا أنها أهداف دعائية ولإرضاء الشارع اليهودي المتعطش للانتقام وهناك أهداف غير معلنة. حتى وإن حقق الأهداف المعلنة فهذا لا يعني أنه انتصر على الشعب الفلسطيني بالمفهوم الإستراتيجي للانتصار، لأن حماس ليست وحدها المقاومة وليست الشعب الفلسطيني وإن كانت جزءاً من كليهما. وهذه الإنجازات المزعومة لا تساوي شيئاً أمام الإهانة التي تعرض لها الكيان على يد المقاومين واهتزاز صورته أمام العالم وانكشافه ككيان إرهابي يمارس الإبادة الجماعية ضد شعب فلسطين، وبالتالي فقدان التميز الذي كانت إسرائيل تخدع به العالم بأنها دولة ديمقراطية تسعى للسلام وأن اليهود وحدهم تعرضوا للهولوكوست، وخصوصاً أن محكمة العدل الدولية تسعى لاتهام إسرائيل بممارسة الإبادة الجماعية.

أيضا يمكن لحركة حماس أن تتحدث عن إنجازات كاقتحامها الحدود في السابع من أكتوبر الماضي وقتلها واختطافها عشرات الجنود والمدنيين وصمودها في الحرب لمئة يوم وإيقاعها الخسائر في صفوف العدو وأنها استطاعت تحريك الرأي العام لصالح القضية الفلسطينية…، ولكن حتى لو تمكنت من إطلاق سراح أسرى من سجون الاحتلال فإن أي حديث لها عن الانتصار بعد الحرب سيكون بعيداً عن الواقع.

◙ في الحالة الراهنة فإن الأولوية هي كيفية وقف العدوان وإنقاذ ما تبقى من قطاع غزة شعباً وأرضاً وإفشال مخطط التهجير، دون أن يكون في ذلك أي مساس بشرعية المقاومة

إنها حرب غامضة في الأهداف وغير معروفة نتائجها لأن هناك الكثير من التساؤلات حول ما جرى يوم السابع من أكتوبر؛ فهل هدف حماس من اقتحام غلاف غزة هو تحرير أسرى أو وقف العدوان في القدس والضفة أو أن العملية خطوة نحو تحرير فلسطين؟ أم أن ما جرى يوم 7 أكتوبر خرج عن كل التوقعات وفلتت الأمور من يد حماس، أم أن هناك ما هو خفي وستكشفه الأيام؟ أيضا هناك غموض والتباس في هدف الكيان الصهيوني من إعلان الحرب، بل أيضا هناك شكوك حول دور لنتنياهو في ما جرى في السابع من أكتوبر؛ فإن كان هدف الكيان القضاء على قادة حماس فهؤلاء موجودون في قطر ويستطيع استهدافهم كما استهدف صالح العاروري في لبنان أو خطف الطائرة التي يستعملونها في تنقلاتهم الدائمة بين الدوحة والقاهرة وله سوابق في ذلك.

وإن كان هدفه تحرير أسراه فإن قصفه العشوائي يفند ذلك حيث لا يعيرهم اهتماما ومستعد للتضحية بهم من أجل أهداف إستراتيجية أكبر. أم يهدف إلى فصل الشمال عن الجنوب ودفع الناس تحت القصف إلى الهجرة نحو جنوب القطاع تمهيدا لترحيلهم إلى سيناء، وهناك تصريحات لقادة صهاينة عن تهجيرهم إلى سيناء أو قبرص والتواصل مع دول عدة لاستيعاب أهالي غزة، كما أن مخطط دولة غزة الموسعة باتجاه سيناء مطروح منذ سنوات عند المخططين الإستراتيجيين الإسرائيليين وسبق أن تحدث عنه مستشار أمني إسرائيلي كبير وهو أيغورا أيلاند؟ أم يهدف نتنياهو إلى إقامة منطقة أمنية عازلة يكون كل شمال قطاع غزة بما فيه مدينة غزة جزءا منها؟ كل ذلك يزيد المشهد تعقيداً.

للأسف عندما تكتب أو تتحدث بعقلانية وواقعية بعيداً عن الشعارات والأيديولوجيات والعواطف الجياشة والحسابات الحزبية الضيقة ستجد كثيرين يقدرون ما تكتب ويتقبلون الانتقادات، ولكن في نفس الوقت ستفتح على نفسك نار جهنم من بعض مكونات الطبقة السياسية بكل أطيافها في غزة والضفة عندما تكشف ضعفهم وحالة التيه التي يعيشونها وغياب الرؤية واستغلالهم جميعا معاناة الشعب في القطاع لمحاولة الحفاظ على مصالحهم السلطوية وزعم كل منهم أنه يمثل الشعب والأحق بحكم غزة بعد الحرب، ونكرر ما سبق أن كتبناه قبل أشهر “هل تستحق سلطة في غزة كل ما جرى؟”، وما نخشاه في هذا السياق أن يكون كيان غزة هو دولة حل الدولتين وصراع فلسطيني داخلي على من يحكمها.

9