فرصة جديدة للمعارضة المصرية

أحزاب المعارضة لم تجتهد لتقوية مناعتها الداخلية وبعضها اعتقد أن التحالف مع الحكومة باب مناسب للتغيير والحصول على مكاسب وهو توجه غير مجد الآن بعد أن فتحت الحكومة بعض الأبواب والنوافذ.
الاثنين 2024/01/22
المعارضة يمكن التفاهم معها إذا خلصت النوايا

ضجت المعارضة المصرية من تضييق حركتها في الشارع والإعلام الفترة الماضية لتبرير غيابها السياسي وعدم قدرتها على التأثير في المشهد العام. الآن ظهرت ملامح تشير إلى أن الحكومة المصرية بدأت تقتنع بأن إجراءاتها التي قوّضت حرية الحركة أمام المعارضة يجب تخفيفها تدريجيا، وأن التنفيس الإعلامي شيء مهم لامتصاص جانب من غضب مكتوم يتصاعد مع تنامي أزمة اقتصادية تعاني منها شريحة من المواطنين، يمكن أن تتحول إلى أداة لانفجار عواقبه غير محسوبة.

أوحى ظهور بعض الشخصيات المعارضة في عدد من وسائل الإعلام الرسمية بأن الحكومة أجرت تعديلا على سياسة المنع والقمع والحجر، وأشار تصاعد حدة الانتقادات على مواقع التواصل الاجتماعي بلا ملاحقة أصحابها قضائيا إلى أن أجهزة الدولة باتت أكثر استعدادا لممارسة هذا النوع من الحرية.

مع كل التصرفات التي اتخذتها الحكومة لتقليص مساحة الحركة العامة، وتضييق الخناق على وسائل الإعلام، كانت دوما هناك نقطة ضوء ينفذ منها البعض إلى الرأي العام بلا عقاب، تتمثل في المساحة الرمادية في العلاقة بين الحكومة والمعارضة، وهي ليست بالقليلة في مصر، ويمكن توظيفها في أوقات كثيرة من دون أن يتعرض من يمارسون هذا الطقس إلى مساءلة أو تضييق مباشر عليهم.

◙ الحكومة المصرية تيقنت أن المعارضة جزء من الكتلة الوطنية في الدولة، عليها أن تثبت نجاحها في التفاعل مع هذه السياسة من دون مزايدات

يحتاج استغلال هذه المساحة جهدا خاصا، فمطلوب ألا يظهر من يقوم به أنه يعمل لحساب جهة معارضة محددة، دولة كانت أو تنظيما، وتحوي انتقاداته إيجابيات تقوم بها الحكومة فعلا، بمعنى تختفي النبرة السوداء، أو تتوارى قليلا، فضلا عن تجنب “الضرب في العضم (العظام)”، وفق تعبير أدبيات مصرية شعبية، وتركيز التحفظات على ما يوصف بـ“اللحم”، أي التعرض لتصرفات بعض المسؤولين والمؤسسات وعدم التطرق إلى ما يندرج تحت المحرمات أو الجهات رفيعة المستوى.

ينحصر التطور الحالي في مصر في الضرب في “اللحم”، وهو الذي جعل بعض قوى المعارضة تخرج من جحورها مؤخرا، وهي ميزة مهمة نسبيا، ومَكسب يمكن البناء عليه لإيجاد حراك يغير انطباعات سلبية عن الركود الذي اتسع نطاقه في مصر، فلا أحد يتبنى معارضة وطنية يريد النيل من أي جهة لها قداستها واحترامها في الوجدان العام، ويجب أن تحافظ عليها كضمانة لحفظ التوازن في دولاب الدولة.

جاءت هذه الفرصة في وقت تعاني فيه غالبية قوى المعارضة من كسل وخمول وانعدام قدرة على التفاعل خارج أسوارها، ما يجعلها غير مهيأة للتعاطي مع المساحة المضيئة التي وفرتها الحكومة للسقف المرتفع للكلام، بما يفقدها أهميتها ويحصرها في نطاق من الضجيج يقوم به مؤيدون للحكومة ضد الحكومة نفسها.

إذا لم تفطن أحزاب المعارضة لهذا التطور والتجاوب معه في حدود وفرتها الحكومة، وهي مرتفعة، فسوف يخسر الجانبان. المعارضة، لأنها تفوت لحظة كان يمكن أن تتحول إلى فرصة سياسية لتثبيت أركانها كعنصر في السياج الوطني العام. والحكومة، لأنها لم تثبت مصداقية عالية تجبر المعارضة على التعامل معها بصورة إيجابية.

◙ ظهور بعض الشخصيات المعارضة في عدد من وسائل الإعلام الرسمية أوحى بأن الحكومة أجرت تعديلا على سياسة المنع والقمع والحجر

الحاصل أن المعارضة فقدت جزءا كبيرا من رصيدها، وتتحمل هذه الخسارة بسبب استسلامها وعدم قدرتها على تلبية احتياجات الشارع سياسيا، وفضّلت غالبيتها الانزواء إيثارا للسلامة وتحاشيا لصدام تكلفته باهظة، أو إيمانا بأن الصعوبات التي تواجهها الدولة تتطلب هدوءا لتجاوز عقبات خلفتها عملية الإطاحة بحكم جماعة الإخوان.

لم تجتهد أحزاب المعارضة لتقوية مناعتها الداخلية، وبعضها اعتقد أن التحالف مع الحكومة باب مناسب للتغيير والحصول على مكاسب، وهو توجه غير مجد الآن بعد أن فتحت الحكومة بعض الأبواب والنوافذ للدخول منها والتعبير عن مواقفها ورؤاها في قضايا مصيرية تمر بها الدولة وتحتاج توصيفا عميقا ودقيقا لعلاجها.

غير مجد، لأن رهانات هذا الفريق من المعارضة حالفها الإخفاق، فلا مثلت إضافة حقيقية للحكومة ودعمها في مواجهة سلسلة من التحديات، ولا تمكنت من تجهيز كوادرها في فترة الاستراحة التي ارتكنت إليها السنوات الماضية، والتي يمكن أن يكون من نتائجها اختفاء أحزاب قامت على عدد محدود من الأشخاص واعتمدت على عدد أقل من أقاربهم وأصدقائهم ومعارفهم تربطهم شبكة ضيقة من المصالح، فالفترة المقبلة ليست بحاجة إلى هذه النوعية من الأحزاب الكرتونية.

شرعت الحكومة في فتح المجال العام نسبيا في وقت تبدو فيه قوى المعارضة الصلبة والقادرة على التجاوب مع الحراك السياسي العام غائبة، وهي أزمة سوف تعاني من تبعاتها الحكومة التي رأت أن تدجين المعارضة فيه أمان لمستقبلها، ولم تنظر إلى الأهمية التي ينطوي عليها وجود معارضة فتية وناضجة، يمكنها أن تقوم بدور معتبر في تصويب بعض الأخطاء، وتمنحها قدرة على المناورة في مواجهة بعض العراقيل.

تنظر الكثير من الدول إلى المعلومات والتعليقات والتصريحات التي تصدر في مصر حيال قضية معينة على أنها تعبير عن موقف رسمي، وهو ما يحمّل الدولة عبئا سياسيا كبيرا، يحرمها من توظيف لعبة توزيع الأدوار مع المعارضة، والتي تلجأ إليها دول عدة لتوصيل رسائل أو التنصل من تبني مواقف معينة بلا مسؤولية سياسية عنها.

◙ مع كل التصرفات التي اتخذتها الحكومة لتقليص مساحة الحركة العامة، وتضييق الخناق على وسائل الإعلام، كانت دوما هناك نقطة ضوء ينفذ منها البعض إلى الرأي العام بلا عقاب

عندما تحركت قوى المعارضة المصرية لمواجهة الممارسات الإسرائيلية في قطاع غزة عقب اندلاع الحرب، تم التعامل معها من بعض الدوائر الخارجية على أنها أداة من أدوات الدولة، بينما كانت وقفاتها سابقا تثير مخاوف لأن مُعظمها جاء نابعا من قناعات مباشرة من المعارضة أكثر من كونه منبثقا من توجيهات وتلميحات رسمية.

بعيدا عن أهداف الحكومة من وراء توسيع نطاق الحركة أمام المعارضة، فإن الأخيرة يمكنها أن تستغل هذه الرغبة في إعادة بناء هياكلها في حدود من الضوابط السياسية والقانونية والوطنية لتحتفظ لنفسها بمسافة بينها وبين تنظيم الإخوان الذي تسببت تصرفاته، في خضم تحديات داخلية وخارجية تواجهها الدولة، في تشويه صورة المعارضة.

ظهر ضوء في نهاية النفق، وتيقنت الحكومة المصرية أن المعارضة جزء من الكتلة الوطنية في الدولة، عليها أن تثبت نجاحها في التفاعل مع هذه السياسة من دون مزايدات و“عنتريات” واتهامات وتراشقات، تفقد الطرفين إمكانية الاستفادة من هذه الحالة الرشيقة، والتي يمثل انطلاقها إضافة للنظام المصري، وإشارة تؤكد أن الرئيس عبدالفتاح السيسي عازم على أن يبدأ ولايته الثالثة في أجواء مغايرة.

يستطيع النظام الاستفادة من هذه الحالة إذا وفّر المساحة المواتية للمعارضة من خلال الحوار الوطني الذي أثبت أنه قادر على استيعاب جميع الأطياف، فكل الانتقادات التي وجهت في جلساته زادت الدولة مناعة وقوة سياسية، وأكدت أن المعارضة يمكن التفاهم معها على أرضية مشتركة عندما تخلص النوايا.

8