البلاهة السياسية في حرب غزة

المقصود ليس التقزيم من قدرات إسرائيل فهي قوة كبيرة مدعومة من قوة أكبر هي الولايات المتحدة تحديدا مع ذلك يرتكب كلاهما حماقات تنم عن عدم معرفة دقيقة بالآخر الذي يستهدفانه.
الاثنين 2023/12/18
استعباط سياسي.. مكالمة تنهي الحرب

لم تحل الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وما تتمتع به من جدية كبيرة، دون الكشف عن مقاطع عديدة مما يمكن وصفه بـ”البلاهة السياسية” أو وفقا للمثل المصري بـ”الاستعباط”، وهو أن يأتي شخص بفعل ساذج يعتقد أنه سينطلي على آخرين وقادر على تمريره بسهولة في أوساطهم.

استوقفت الطريقة التي حمل فيها مندوب إسرائيل في الأمم المتحدة جلعاد إردان صورة لقائد حركة حماس ومعها رقم هاتفه خلال جلسة عقدت لإصدار قرار بوقف إطلاق النار في غزة، الكثير من المتابعين ليتهكموا عليه ويسخروا منه، حيث طالب السفير بالاتصال بيحيى السنوار لمطالبته بتسليم نفسه ورفاقه وتنتهي الحرب.

ردت حماس بأن عممت رقم هاتف جلعاد وتلقى سيلا من السخرية من فلسطينيين وغيرهم، ومن بين الساخرين إسرائيليون، لأن الطريقة المسرحية التي أظهرها الرجل لا تعبر عن كياسة، بل هي بلاهة أو “استعباط” لجأ إليه جلعاد لجذب الأنظار إليه وحرف المناقشة عن محورها الرئيسي (العدوان على غزة)، وقد كرر مسرحياته في قاعة مجلس الأمن في مشاريع قرارات تقدمت بها بعض الدول طلبا لهدنة إنسانية.

◙ إسرائيل تمتلك آلة دعاية جبارة في الداخل والخارج ومع ذلك لم تتمكن من تحقيق أهدافها لأن التغذية المقدمة إليها ناقصة ومبتورة ولا ترقى إلى المستوى الذي يريده الرأي العام

يستطيع المرء سرد الكثير من النماذج التي تعبر عن ارتفاع مستوى السذاجة السياسية في الخطابين الأميركي والإسرائيلي، وتحمل في جوهرها رغبة في إنكار ما ترتكبه قوات الاحتلال في حق المدنيين الفلسطينيين، كأن يطالب وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت حماس بإلقاء أسلحتها وتسليم عناصرها والأسرى مجانا، ما يدل على عدم معرفة بعقيدة عدوّ يحاربه، يفضل الموت – الاستشهاد على الحياة.

أغدقت الإدارة الأميركية بالأسلحة والمعدات على إسرائيل وطالبتها بمراعاة القانون الدولي الإنساني وحماية المدنيين الذين اعتبرت كل من الولايات المتحدة وإسرائيل أن حماس تستخدمهم دروعا بشرية، وترفض واشنطن التفكير في وقف قريب لإطلاق النار، ومنحت تل أبيب ضوءا أخضر للدفاع عن النفس بلا قيود أو سقف زمني.

اتسع عصر البلاهة السياسية لدى المسؤولين الأميركيين للدرجة التي تمت فيها الموافقة على حل الدولتين وفقا لمبدأ التسوية وإنشاء دولة فلسطينية قبل أن ينوي هؤلاء وقف الحرب أو تدشين هدنة جديدة، وتأكيد رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو المساواة بين حركتي فتح وحماس، أو ما أسماه “فتحستان” و”حماسستان”، وأن الأولى تريد إبادة إسرائيل تدريجيا، بينما تعمل الثانية على إبادتها فورا.

وأدلى كبار المسؤولين في الولايات المتحدة وإسرائيل بتصريحات متباينة تعزز البلاهة السياسية عن قصد أو دونه، كحيلة للقفز على الواقع وترسيخ انطباعات سيئة عن الفلسطينيين عموما والمقاومة خصوصا، وتم الترويج لشائعات مثل اغتصاب النساء وجزّ رقاب أطفال في غلاف غزة على يد عناصر حماس بهدف خلق صورة ذهنية قاتمة عن الحركة وقطع الطريق على أيّ تعاطف شعبي تحصل عليه بعد صمودها في وجه آلة الحرب الإسرائيلية الجبارة.

◙ أميركا وإسرائيل ترتكب كلاهما حماقات تنم عن عدم معرفة دقيقة بالآخر الذي يستهدفانه، ورغبة جارفة لتقديم معلومات مغلوطة، واجتهادات تحمل منطقا معوجّا

المثير أن نخبة أميركية وإسرائيلية لم تعصم نفسها من البلاهة وتبنت روايات سلبية متعددة ضد حماس وأضفت عليها طابعا ساخنا كأن تتم المطالبة بالإبادة الجماعية وإلقاء قنبلة ذرية أو وصف الفلسطينيين بـ”الحيوانات”، وكلها صفات لم تنل من عزيمة المقاومة وتضعف الانحياز لها، ونالت من صورة إسرائيل ومكانتها.

ولم تكتف بأن ظهرت غطرستها العسكرية وسهولة اختراق مؤسساتها الأمنية لكن زادت عليها تشويه صورة أنها دولة “ديمقراطية ومتحضرة وسجلها ناصع في مجال حقوق الإنسان”، قزّمت خصالا تم تسويقها لعقود طويلة بسبب الترهل في الخطاب السياسي لإسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة وليس من خلال حماس والتعاطف معها.

عندما تفيق إسرائيل من سكرتها بعد وقف الحرب سوف تكتشف حجم الخسائر التي تكبّدتها، وإن تمكنت من القضاء على جزء كبير من قدرات حماس القتالية، فالتكاليف في هذه الحرب لا تتوقف على حجم التدمير وأعداد القتلى، بل بما خسرته إسرائيل سياسيا، وهو ناجم عن تدن في مستوى خطاب عام، لم يستطع الكثير من المسؤولين والنخب ضبطه جيدا بما يتماشى مع الثورة الهائلة في مجال التكنولوجيا والدور الحيوي الذي تلعبه مواقع التواصل الاجتماعي في توجيه الرأي العام.

كشف الأداء الإعلامي للمتحدثين العسكريين والمدنيين عن وجودهم في فقاعة، لا تمكّنهم من رؤية بضعة أمتار لما يجري خارجها، فإذا كان مفهوما أن التعليمات صارمة وقت الحرب فالتنفيذ من المهم أن تطغى عليه المهارة والحرفية، ومن يقارن بين ما بثه جيش إسرائيل من صور وفيديوهات لأشباح فلسطينية يقاتلها وبين ما بثته المقاومة بالمعيار نفسه يعرف على الفور المسافة بين البلاهة والحنكة الإعلامية.

◙ المرء يستطيع سرد الكثير من النماذج التي تعبر عن ارتفاع مستوى السذاجة السياسية في الخطابين الأميركي والإسرائيلي، وتحمل في جوهرها رغبة في إنكار ما ترتكبه قوات الاحتلال في حق المدنيين الفلسطينيين

تمتلك إسرائيل آلة دعاية جبارة في الداخل والخارج، مع ذلك لم تتمكّن من تحقيق أهدافها، لأن التغذية المقدمة إليها ناقصة ومبتورة ولا ترقى إلى المستوى الذي يريده الرأي العام، ما يفسر حجم التحول الشعبي في دول مختلفة والانتقال من تأييد إسرائيل إلى التعاطف مع الفلسطينيين وارتفاع أصوات المطالبين بوقف الحرب.

أحد مظاهر البلاهة أن تجد منهجك لا يحقق أهدافه وتصر على استخدامه، أو أن تجد مردودات عكسية لمنطق ولا تسعى نحو إدخال تعديلات عليه، وهي نكسة أخرى تواجهها إسرائيل تؤكد أن التفوق العلمي والتقني لا يعني امتلاك ناصية العلم والتكنولوجيا، فالمستخدم أو “user” هو الذي يتحكم في النتيجة، ويتوقف النجاح على مستوى الرداءة، فكلما انخفضت زادت النسبة، والعكس صحيح.

قد تكون الدعاية السوداء أو السذاجة السياسية تخفي وراءها الكثير من الملامح التي تريد تصديرها إسرائيل للعالم، لكن عندما تصل إلى حد التعارض مع العقل يصعب القبول بها مهما كانت أهمية أهدافها، فالطريقة التي تقدم بها واتساقها مع العقل وعدم وجود ما يناقضها عناصر كفيلة لتثبيتها، بينما ما حصل على النطاقين السياسي والإعلامي وظهرت تجلياته في تصرفات عدة الفترة الماضية زاد القناعة بأن الإخفاق العسكري الذي حدث في السابع من أكتوبر الماضي غير منفصل عن إخفاقات أخرى.

ليس المقصود التقزيم من قدرات إسرائيل، فهي قوة كبيرة مدعومة من قوة أكبر، الولايات المتحدة تحديدا، مع ذلك يرتكب كلاهما حماقات تنم عن عدم معرفة دقيقة بالآخر الذي يستهدفانه، ورغبة جارفة لتقديم معلومات مغلوطة، واجتهادات تحمل منطقا معوجّا، وكلها عوامل تفسر أسباب تراجع التأثير في الرأي العام الدولي، والفشل في اختراق شريحة من الرأي العام العربي الذي على الرغم من رفض فئة فيه لحماس، إلا أن ممارسات إسرائيل وبلاهة خطابها أسهما في كسب الحركة حضورا واسعا.

9