استحالة رفع الدعم الحكومي في ليبيا تزيد أزمة تهريب الوقود تعقيدا

أثارت تلميحات الحكومة الليبية المنتهية ولايتها بضرورة رفع الدعم عن المحروقات واستبداله ببدل مالي للفئات الفقيرة والمتوسطة كأحد الحلول العاجلة لمواجهة التهريب ردود فعل غاضبة، خاصة من الميليشيات المنتفعة بذلك، لكن الليبيين يعزون احتداد ظاهرة التهريب إلى فشل المنظومة الأمنية وتحالف الميليشيات مع الساسة.
طرابلس - تعيش ليبيا على وقع سجال حاد بسبب أزمة تهريب الوقود وسعي الحكومة لإقناع مواطنيها بضرورة رفع الدعم عن المحروقات، وهو ما تختلف بشأنه الآراء بين مساندين ومناهضين لاسيما في ظل تغوّل شبكات التهريب وتحولها إلى مؤسسات نافذة في مجتمعاتها المحلية بالاعتماد على اندماجها الكامل في الاقتصاد الموازي.
وقال رئيس حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها عبدالحميد الدبيبة إن نصف موازنة ليبيا تذهب إلى دعم الوقود حتى أن أرقام الدعم أصبحت مخيفة، موضحا أن الدولة تشتري لتر البنزين بـ3.5 دينار وتبيعه بـ0.15 دينار وهو ما يستوجب تغيير سياسات دعم المحروقات.
وتخسر ليبيا ما لا يقل عن 750 مليون دولار سنويا نتيجة أنشطة تهريب الوقود غير الشرعية، كما زادت مخصصات دعم الوقود في ليبيا لتتجاوز 12 مليار دولار في عام 2022، بزيادة قدرها 5 مليارات دولار مقارنة بعام 2021، وهو أمر يثير قلق السلطات ويطرح تساؤلات بشأن الإصلاح المطلوب لتفادي ذلك.
وشدد الدبيبة على أنه لا قضاء على ظاهرة تهريب الوقود إلا برفع الدعم عن المحروقات، مقترحا استبداله بالدعم النقدي للمواطنين.
وكنتيجة للدعم الحكومي للوقود تعتبر محطات البنزين والديزل في ليبيا الأرخص على مستوى العالم إلى جانب فنزويلا، وهو ما يثير أطماع شبكات التهريب بالإقليم التي تتولى نقل الوقود الليبي عبر الحدود البرية والبحرية إلى أكثر من عشر دول على الأقل.
750
مليون دولار سنويا خسائر ليبيا نتيجة أنشطة تهريب الوقود غير الشرعية
ويقدر دعم ليبيا للوقود بما يناهز 3.9 مليار دولار، أي 17.7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، أما سعر البنزين فيعد الأرخص في ليبيا من ضمن جميع دول أفريقيا بـ0.11 في المئة للتر الواحد، وفق الأمم المتحدة.
وتشير تقديرات المؤسسة الليبية للنفط إلى أن ما بين 30 و40 في المئة من الوقود المكرر في ليبيا أو المستورد من الخارج يتعرض للسرقة أو التهريب.
وتقوم سفن ليبية بتهريب الديزل إلى سفن دولية في البحر، بينما يتجه البنزين إلى بائعين على الطرق أو مهربين يعملون عبر حدود ليبيا البرية.
وأوضح مدير إدارة الدراسات والبحوث بمصرف ليبيا المركزي ناجي عيسى أن فاتورة تهريب الوقود تقدر بأكثر من 30 مليار دينار، وبنسبة 30 في المئة من قيمة فاتورة المحروقات.
وانتقدت اللجنة الليبية لحقوق الإنسان مقترح الدبيبة بشأن رفع الدعم عن المحروقات بحجة وقف تهريب الوقود ومشتقاته إلى الخارج.
وقالت اللجنة في بيان إن الحكومة تغاضت عن الإنفاق الضخم الذي يخص السلطات الحاكمة وحدها في هذا الشأن، كما تجاهلت إصلاح أجهزتها الأمنية الممتلئة بالمجرمين وأصحاب السوابق، وتحميل المواطن عجز وفشل السلطات في تأمين وحماية الحدود والمنافذ البرية والبحرية للحد من تهريب الوقود ومشتقاته.
وأضافت اللجنة أن مقترح الدبيبة جاء عقب تفشّي ظاهرة تهريب الوقود في جميع أنحاء البلاد على مدار سنوات طويلة، مما جعلها مشكلة غير محلولة تستنزف خزانة الدولة، كما عملت الكثير من الميليشيات والجماعات المسلحة بتواطؤ مسؤولين وبشراكة أجهزة أمنية في هذه التجارة المربحة، وهو ما أدى إلى رفض الكثير من المواطنين دفع فاتورة هذه المشكلة الأمنية، التي تعكس فشل القطاع الأمني بالدرجة الأولى.
رفع الدعم عن الوقود يمثل حلا مهما لكن من المستحيل تطبيقه في الـظروف الحالية
وحذرت من أن الطبقات الفقيرة ومتوسطة الدخل هي وحدها من ستعاني من تبعات قرار رفع الدعم عن المحروقات، الذي سيؤدّي إلى زيادة العبء على المواطنين في مقابل تنصل الحكومة من التزاماتها.
وقالت الأمم المتحدة في العديد من المناسبات إن تجارة تهريب الوقود من وداخل ليبيا لا تزال مزدهرة النشاط، وأبطالها هم الجماعات المسلحة عبر الحدود، إذ تمارس تلك الجماعات نشاطها بالتعاون مع الشبكات الإجرامية.
وبحسب تقرير الخبراء الأمميين فإن تدفق الوقود عبر الحدود الليبية إلى تونس مستمر، وأيضا إلى النيجر وتشاد، ولاسيما على مستوى مواقع التنقيب عن الذهب عند الحدود، حيث أن معظم محطات الخدمة في جنوب ليبيا إما مغلقة أو لا تبيع الوقود حسب السعر الرسمي، مؤكدين أن تحويلات الوقود المدعم تغذي السوق السوداء المحلية ومقدارها غير واضح.
وتظهر التحقيقات الأممية أن السكان الذين يعيشون في المناطق الحدودية لدول الساحل قادرون على التزود بالوقود للاستخدام الشخصي بنصف السعر عن طريق عبور الحدود إلى ليبيا.
وتعتبر الصحراء الليبية، الممتدة من الجنوب شرقا إلى غدامس غربا ومن الكفرة إلى غات عبر الشريط الحدودي مرورا بواحات جالو وأوجلة وإجخرة إلى منطقة الجفرة والقطرون، أكبر سوق لبيع وتهريب الوقود؛ حيث توجد في الجنوبين الشرقي والغربي للبلاد أكثر من مئة محطة وقود عامة وخاصة توفر عشرات الآلاف من أطنان الوقود أسبوعيا.
وسبق للنيابة العامة أن كشفت تفاصيل تهريب الوقود عبر شبكات دولية، حيث أشارت إلى أن عمليات تهريب الوقود تتم برا عبر منافذ رأس الجدير وذهيبة الحدوديين مع تونس، وبحرا من المنطقة الممتدة من الزاوية حتى زوارة غرب طرابلس، حيث يتم تهريب كميات ضخمة من الوقود المدعوم حكومياً بشكل يومي.
أغلب المتورطين في شبكات التهريب هم من أمراء الحرب وقادة الميليشيات الذين أصبحوا يحظون بنفوذ اجتماعي واسع في مناطقهم
ويشير مراقبون إلى أن أغلب المتورطين في شبكات التهريب هم من أمراء الحرب وقادة الميليشيات الذين أصبحوا يحظون بنفوذ اجتماعي واسع في مناطقهم.
وتشير أوساط أمنية إلى أن تهريب الوقود يتم عبر الطرق البرية عن طريق الشاحنات، وكذلك البحرية من خلال تعبئة الوقود للسفن الدولية وسط البحر بأسعار مضاعفة مقارنة بالأسعار المحلية، لينتهي الحال بالوقود الليبي في أسواق دول أخرى، بينما يقف المواطن الليبي لساعات في طوابير أمام المحطات للحصول على البنزين.
وتوجد أبرز نقاط التهريب في مدن الزاوية وصبراتة وزوارة، تحت سيطرة قوى مسلحة غير معرضة للمحاسبة والاعتقال.
ويعتبر رفع الدعم الحكومي عن الوقود من أكثر التحديات التي تواجه السلطات المركزية، لاسيما أن الأطراف المستفيدة منه هي الشبكات ذات الصلة بالميليشيات أو التي تعتبر واجهتها التجارية والمالية، وهي مستعدة للدفع بالبلاد إلى مربع الفوضى من جديد في حال اعتماد أي قرار يهدد مصالحها.
وبحسب تقرير أممي، فإن البنزين الليبي يُباع في دول الساحل الأفريقي بسعر 1.9 دولار للتر، وهو زيادة 19 مرة عن سعره في ليبيا. وفيما يتعلق بسياسة الحكومة لدعم المحروقات، كشف تقرير ديوان المحاسبة لعام 2022 أن إجمالي الإنفاق على دعم المحروقات بلغ 17 مليار دولار، ما يمثل نسبة 39 في المئة من إجمالي الإنفاق العمومي للعام نفسه.
ويجمع أغلب المراقبين على أن أزمة تهريب النفط تعتبر أحد أوجه الأزمة السياسية في البلاد وهي نتاج لضعف الدولة وتراجع دورها المركزي وتغوّل شبكات الفساد المتحالفة مع الميليشيات المتغلغلة في مفاصل السلطة.
ويشير المراقبون إلى أن رفع الدعم عن الوقود يمثل حلا مهما لكن من المستحيل تطبيقه في الـظروف الحالية، وذلك بسبب تعدد الأطراف المستفيدة من الوضع السائد وهي جزء من منظومة الحكم والتوازنات المالية والاجتماعية في أغلب مناطق البلاد، وأن هناك من يبدون استعدادهم للقتال حفاظا على مصالحهم وامتيازاتهم.