من بنغازي إلى غريان: جهود المصالحة الاجتماعية في ليبيا تتعثر مجددا

يستبعد محللون أن يتوصل الفرقاء الليبيون إلى حل سياسي شامل دون حسم ملف المصالحة الاجتماعية التي يمثل ملف عودة المهجرين جوهرها. وتعمل أطراف ليبية على إجهاض جهود المصالحة وتكريس الوضع الراهن بما يخدم مصالحها.
بنغازي (ليبيا) - من بنغازي شرقا إلى غريان غربا، كان الفشل من نصيب جهود بذلتها الفعاليات القبلية والعشائرية المحلية لتكريس المصالحة الاجتماعية التي يبدو أنها لا تخدم مصالح أصحاب القرار السياسي والاقتصادي ممن يستفيدون من فرض سياسة “فرّق تسد”.
وإذا كان مصير وزير الدفاع الأسبق مهدي البرغثي، الذي دخل بنغازي بالتنسيق مع قبيلته، إصابات بليغة واحتجازا أمنيا وسلسلة من التهم التي يصل الحكم بشأنها إلى الإعدام بالرصاص، فإن مصير القائد الميليشياوي عادل دعاب العائد إلى مدينته غريان لا يختلف كثيرا من حيث خيبة الأمل، ولكن إصابته لم تمنعه من الفرار إلى المنطقة الشرقية بعد مواجهات جهّز لها رئيس حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها عبدالحميد الدبيبة حشودا كبيرة من الميليشيات الموالية لسلطته مع طائرات مسيرة كانت تحوم في سماء الجبل الغربي.
وفي التاسع من نوفمبر 2023 أكد الدبيبة لدى استقباله أعيان بلدية غريان والزعماء القبليين أن استقرار المدينة ومدن الجبل هو المعيار الحقيقي لاستقرار ليبيا، مشددا على خطة تأمين المدينة من خلال رئاسة الأركان العامة والقوات المساندة في المدينة.
المتابعون للأحداث في غريان ينظرون إلى أنها دليل على أن السلطات الحكومية وقواتها العسكرية والأمنية لا تزال غير قابلة لمشروع المصالحة الاجتماعية
وفي ذلك اليوم أشرف الدبيبة على الاجتماع العادي التاسع للعام 2023 لمجلس وزراء حكومته بالمدينة التي شهدت مواجهات مسلحة يوم 29 أكتوبر الماضي أدت إلى سقوط عدد من القتلى والمصابين وإلى توجيه ضربة موجعة للنسيج الاجتماعي في المنطقة.
وحاول الدبيبة إقناع وجهاء وأعيان غريان بوجهة نظره، لكن الأمر ليس بهذه السهولة؛ فكبرى مدن الجبل الغربي التي تبعد نحو 90 كيلومترا إلى الجنوب من طرابلس ذات أهمية محورية وإستراتيجية في غرب ليبيا، وخاسر من يعتقد أنه يستطيع تهميش دورها أو فرض سلطته عليها دون توافق مسبق مع سكانها المحليين.
ويقول أعيانها إنها قادرة على حل مشاكلها الاجتماعية وتكريس مصالحة بين مكوناتها لكن سلطات العاصمة ترفض ذلك، وتسعى للتدخل في شؤونها القبلية والعشائرية.
وعندما أعلن الجنرال خليفة حفتر، القائد العام للجيش الوطني الليبي، إطلاق عملية ” طوفان الكرامة” في الرابع من أبريل 2019 كانت غريان أول مدينة دخلتها قوات قادمة من الجنوب بعد مناوشات قصيرة مع الميليشيات الموالية لحكومة طرابلس آنذاك بقيادة فائز السراج.
وتم اعتبار الخطوة بداية موفقة لرجل الشرق القوي؛ فالتمركز في غريان يساعد على فسح المجال نحو طرابلس، كما أن نسبة مهمة من سكان المدينة والمناطق المجاورة أعلنوا ولاءهم للجيش الوطني بصفته رمزا لهيبة الدولة، ويمثل نقيضا واضحا للميليشيات الخارجة عن القانون سواء من حيث الانضباط العسكري والتراتبية الوظيفية أو من حيث الالتزام الأخلاقي والقيمي واحترام الخصوصيات الاجتماعية والعشائرية.
وعندما اعتقدت غرفة عمليات “الكرامة” أنها بسطت نفوذها بالكامل على غريان كانت ميليشيات حكومة الوفاق، بدعم مباشر من مستشارين أجانب، تعمل على استعادة المدينة نظرا لأهميتها الإستراتيجية، فكان لها ذلك في 26 يونيو من عام 2019.
وفي الأول من يوليو قال أحمد المسماري الناطق باسم قيادة الجيش إن مدينة غريان تعرضت لما وصفه بالخيانة، وإن قواته تعرضت داخل المدينة لعمليات قتل عن قرب وتصفية وقنص ودعس بالسيارات، وطرق أخرى لم يكشف عنها. وأضاف أنهم رصدوا 86 اسما ممن وصفهم بالخونة، لكن الواقع يشير إلى أن الإهمال والتقصير من قبل القيادة الميدانية كانا وراء الهزيمة المدوية التي أثرت لاحقا على كامل مجريات العملية العسكرية في المنطقة الغربية.
واستطاعت قوات آمر المنطقة العسكرية الجبل الغربي أسامة الجويلي اختراق قوات “الكرامة” من خلال ميليشيات كانت قد تظاهرت بمساندة الجيش قبل أن تؤكد ولاءها لحكومة الوفاق، وقد استغلت ضعف الوجود العسكري الرسمي في المدينة للهجوم عليها وارتكاب جرائم فظيعة في حق كل من أثبت ولاءه للجنرال حفتر، بما في ذلك قتل جرحى الجيش في المستشفيات وتدمير المنازل ونهب الممتلكات الخاصة والعامة.
وكان من بين القوات المسلحة الموالية للجنرال حفتر في غريان والتي اضطرت إلى مغادرة المدينة بعد سيطرة قوات الجويلي عليها، ما يسمى بـ”القوة الرابعة / درع ليبيا” التي يتزعمها عادل دعاب والتي شاركت سابقا إلى جانب قوّات مصراتة في عمليّة “فجر ليبيا” سنة 2014 قبل أن تنضم في العام 2019 إلى قوات الجيش تحت اسم كتيبة 111 التابعة للواء 106 تحت إمرة خالد حفتر.
وكان على عدد كبير من أبناء المدينة والمناطق المجاورة التخلي عن مساكنهم وأراضيهم والمغادرة في اتجاه مناطق نفوذ الجيش الوطني سواء في جنوب أو وسط أو شرق البلاد خشية الوقوع بين أيدي الجماعات المتشددة التي تمارس سياسات الثأر والانتقام ضد كل من يتبنى موقفا مختلفا أو رؤية مناقضة للسائد بين ميليشيات الغرب.
وبعد أكثر من أربع سنوات قرر دعاب وأتباعه العودة إلى مدينتهم بالاتفاق مع القيادات الاجتماعية القبلية والعشائرية في المدينة بعد وساطات قامت بها قبائل أولاد سليمان والزنتان وغيرها ، كما كان الجويلي على علم بالاتفاق، وكذلك الأمر بالنسبة إلى اللواء 444 وآمره محمود حمزة الذي سهل لقوات دعاب المرور نحو غريان وقام بحمايته وفتح له الطريق عبر بني وليد.
وخلال فترة وجيزة لا تتجاوز ساعتين سيطرت قوات دعاب على مدينة غريان وسط ترحيب السكان المحليين الذين رأوا في الخطوة تكريسا للمصالحة الاجتماعية في مدينة تنتمي إلى محيط جغرافي لا يزال خاضعا لسيطرة سلاح الميليشيات ولنفوذ المصالح والحسابات.
وبين عدد من القيادات القبلية والأمنية والإدارية وقف دعاب ليعلن ولاءه وتبعيته للمجلس الرئاسي ولحكومة الوحدة الوطنية، مناديا بوقف إطلاق النار وإنهاء العمليات العسكرية، وداعيا الدبيبة إلى تفعيل أجهزة الدولة العسكرية والشرطية للقيام بواجباتها في المدينة.
كما أعلنت قيادات مدينة غريان، بحضور دعاب وقائد الأمن العام في المدينة عبدالخالق الدايخ، أنها ستتصدى لكل من تسول له نفسه أن يتعرض لمؤسسات الدولة في المدينة، مؤكدة دعمها التام للمجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية.
وبعودة المدينة إلى سيطرة القوات الحكومية أكد المجلس البلدي غريان في بيان له أن المدينة “تعرضت خلال الأيام الماضية لهجوم مسلح من قبل مجموعة معتدية أصرت على بث الفرقة بين أبناء المدينة رغم انتهاج البداية سياسة الاحتواء والمصالحة الشاملة وفق الشروط القانونية والشرعية”.

واتهم السكان المحليون غرفة العمليات الأمنية المشتركة التي شكلها الدبيبة بارتكاب اعتداءات وتجاوزات في مدينة غريان، بدلا من حفظ الأمن وإعادة الاستقرار للمدينة.
وأعلن المجلس البلدي والمشايخ والأعيان ومخاتير بلدية غريان في بيان مرئي رفضهم العمليات الانتقامية، وطالبوا بالوقوف أمام مرتكبيها بكل قوة ومنع الاقتتال وردود الأفعال.
كما طالبوا بتوفير الحماية لأهالي المتضررين من النزاع المسلح، وبوقف عمليات القبض على الهوية وخارج نطاق القانون، وإرجاع كل الممتلكات العامة والخاصة وتسليمها لمديرية الأمن عن طريق مخاتير المحلات بعد استيفاء الأدلة والاطلاع على المحاضر، وطالبوا بتعويض المتضررين جراء الأحداث المؤسفة وتشكيل لجنة للتأكد من هذه الأضرار وحصرها.
وأعلن أعيان وسكان محلة السقائف ببلدية غريان رفضهم لتجاوزات التشكيلات المسلحة التابعة للحكومة وتعدي عناصرها على حرمات البيوت وقيامهم بعمليات خطف على الهوية دون وجه حق. وطالبوا بتكليف اللواء 444 بتأمين مدينة غريان وسحب التشكيلات المسلحة غير النظامية، ورفع الغطاء الاجتماعي عن المجرمين الذين تحتويهم منطقتهم وتسليمهم للعدالة.
واعتبر أحمد حمزة، رئيس اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان، أن المشكلة معقدة ومتشابكة، حيث تتداخل المصالح والانتماءات.
بعد أكثر من أربع سنوات قرر دعاب وأتباعه العودة إلى مدينتهم بالاتفاق مع القيادات الاجتماعية القبلية والعشائرية في المدينة بعد وساطات قامت بها قبائل ليبية
ويقول مراقبون من غريان إن رغبة الحكومة وميليشياتها في إدامة حالة الانقسام الاجتماعي، وحؤولها دون عودة المهجرين من المدنيين والعسكريين، يؤديان إلى استمرار حالة الغموض المتصل بالنسيج الاجتماعي وبما يمكن أن يخفيه من بوادر فتنة قد تعيد المنطقة إلى مربع الفوضى.
وعلّق رئيس المؤسسة الليبية للإعلام الكاتب الصحافي محمد بعيو على الأحداث بالقول “عاد عادل دعاب إلى أهله ومدينته غريان، بعدما تمكن أهل الصلاح والإصلاح من ترطيب القلوب وإعادة ربط ما تقطع منذ سنوات من وشائج الدم والرحم والقربى”، وتابع “كادت العودة الموافق عليها من مختلف الأطراف تمر بسلام، لكن أتباع المفتنين والمغرر بهم كان لهم قول آخر”.
وأشار إلى أن “أهل غريان قادرون على إصلاح ذات بينهم، وتحقيق السلام في مدينتهم، وجبر ما وقع من ضرر، ولا يجب إطلاقاً التدخل بينهم بالقوة، أو بالانحياز أو بالتحريض والتهييج”.
ونظر المتابعون للأحداث في غريان إلى أنها دليل على أن السلطات الحكومية وقواتها العسكرية والأمنية لا تزال غير قابلة لمشروع المصالحة الاجتماعية، لاسيما أن مشروع المصالحة السياسية لا يزال يراوح مكانه دون أن يتقدم، مشيرين إلى أن الموضوع يتعلق أساسا بتقاسم المصالح بين قوى الأمر الواقع في طرابلس وبنغازي على حساب المصلحة العامة للبلاد التي تفترض تجاوز مخلفات الصراعات الدموية وطي صفحة الأزمة التي اندلعت منذ العام 2011 واتخذت أبعادا أخرى ، فيما الصراع الحقيقي يدور حول الثروة والنفوذ بمستوياته الداخلية والخارجية.
ولا تعدو حادثة غريان أن تكون رديفا لأحداث بنغازي في السادس من أكتوبر الماضي، عندما اهتزت منطقة السلماني لمواجهات عسكرية بين قوات أمنية وعسكرية تابعة للقيادة العامة للجيش ومسلحين موالين لوزير الدفاع الأسبق مهدي البرغثي الذي عاد إلى مسقط رأسه تحت غطاء اجتماعي تنفيذا لوعود بالمصالحة أطلقها المشير حفتر وتبنتها قبيلة البراغثة التي تعتبر جزءا من قبيلة العواقير ذات النفوذ الواسع في شرق ليبيا.
ويعتبر البرغثي من أبرز الضباط الذين شاركوا في إطلاق معركة الكرامة بقيادة الجنرال خليفة حفتر في مايو 2014 قبل أن ينشق عنها بقبوله في منتصف يناير 2016 منصب وزير الدفاع في حكومة الوفاق الوطني في سياق الصراع على السلطة والمصالح والتوازنات الاجتماعية والقبلية، ووقف وراء عدد من العمليات التي استهدفت وحدات الجيش في وسط وجنوب البلاد، وذلك من خلال تحالفه مع إبراهيم الجضران الآمر السابق لحرس المنشآت النفطية.
وفي أوائل أكتوبر الماضي كشفت الأجهزة الأمنية عن تورط البرغثي في محاولة للتمرد على قيادة الجيش بالتعاون مع أطراف مؤثرة في مواقع القرار بطرابلس.
وقال جهاز الأمن الداخلي في المنطقة الشرقية إن عناصر خلية السلماني التخريبية التي حاولت زعزعة استقرار المدينة قد تلقت ضربة موجعة، في إشارة إلى وزير الدفاع الأسبق المهدي البرغثي الذي عاد مؤخرا إلى المدينة.
وأضاف الجهاز أنه أطاح بالبرغثي وعدد من الأشخاص معه في قبضته وقبضة القوات المسلحة، وأنهم فقدوا عددا من عناصر الخلية خلال مقاومتهم للقوات، موضحا أن تأخر نشر خبر اعتقال البرغثي لضمان الإطاحة ببقية خليته في عدة مناطق.
لكن قبيلة البراغثة استنكرت ما وصفته بـالإجراءات التعسفية التي قامت بها القيادة العامة وحذرت من “استخدام القوة ضد المواطنين”، معتبرة أن “استخدام العنف سيواجه بالعنف وقد تتجه الأوضاع في بنغازي خاصة وفي عموم برقة نحو الانهيار”.
وبقطع النظر عن مصير البرغثي، وعن حقيقة التهم المنسوبة إليه، فإن كل المؤشرات تؤكد أن الفرع الأساس لمشروع المصالحة الاجتماعية، وهو عودة المهجرين، لا يزال يشكل عائقا أمام الحل السياسي في البلاد، لاسيما أن السلطات المسيرة على غرب ليبيا دفعت مناهضيها إلى المنطقة الشرقية، فيما دفعت سلطات الشرق بمناوئيها إلى غرب البلاد، وذلك تحت مسميات مختلفة يمكن أن تنطبق على مختلف الفرقاء.
ولا يزال آلاف المهجرين خارج ديارهم ومناطقهم نتيجة الصراع السياسي الذي اكتسى الكثير من الأبعاد الاجتماعية والمناطقية والعقائدية، ولا يزال يدار من قبل من استولوا على مقاليد السلطة ومفاتيح الثروة ويرفضون السماح لأي كان بمنافستهم عليها.