الشماتة المرَضية للإخوان في مصر

الجماعة سقطت في حرب غزة مرتين. مرة بسبب سوء نواياها للدولة المصرية وتشكيكها في القيادتين السياسية والعسكرية وهما تتعرضان لضغوط خارجية كبيرة، ومرة أخرى بسبب ثقتها المفرطة في التيارات الإسلامية
الجمعة 2023/11/03
رغبة الانتقام ميراث لصيق بالإخوان

يقول المثل الشعبي المصري “يموت الزمار وإصبعه بيلعب” كدليل على عدم التخلي عن العادات، خاصة السيء منها، حتى ولو فارق صاحبها الحياة. وقد يكون هذا المثل معبرا عن الحالة التي وصلت إليها جماعة الإخوان المصرية حيال غزة.

واتت الجماعة فرصة جيدة مع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة لتتطهر من تصرفاتها السابقة وتثبت أنها قوة وطنية وتقف في صف مصر، غير أنها فوتتها كالعادة ولم يخب ظن من توقعوا ذلك منها، حيث تتعمد بث الشائعات وإثارة اللغط حول الدولة بشأن مخطط إسرائيل لتوطين فلسطينيي غزة في سيناء.

أصبحت شماتتها في النظام المصري مرَضية، لا تترك شاردة أو واردة إلا وتوقفت عند ما تحمله من سلبيات، فإذا اكتشفت الحقيقة وأن ما جرى الترويج له خطأ فادح لا تتراجع أو تعترف بسوء تقديرها، وكان يمكن للجماعة لو امتلكت رجاحة عقل أن تستثمر العدوان في مساندة الدولة ولا تنجر إلى خندق عقائدي ضيق.

تحدثت جماعة الإخوان عن مخطط التوطين وكأن القاهرة قبلت به أو رضخت للضغوط الدولية التي تمارس عليها، وكالت الاتهامات للنظام الحاكم وهي محكومة بعقدتها السابقة منه، ولم ينس قادتها وإعلاميوها أن الرئيس عبدالفتاح السيسي لعب دورا رئيسيا في إزاحتهم عن السلطة والحياة السياسية برمتها وقضى على قوتهم الأمنية.

◙ فرصة فاتت على الإخوان في مصر ليكونوا رقما سياسيا في المرحلة المقبلة، أو على الأقل في الصف العام للقوى الوطنية، لأن ترتيبات ما بعد غزة سوف تتجاوز القطاع وتمسّ الكثير من دول المنطقة

عكس الموقف الحالي للإخوان ما قاله مرشدهم الأسبق مهدي عاكف “طز في مصر.. وأبو مصر.. واللي في مصر” كإشارة على عدم منح أهمية للدولة وشعبها، فالجماعة فوق الجميع، وهي عبارة أو لعنة تطاردهم لأنهم لم يتبرأوا منها، وكالوا الاتهامات لمن انتقدوها وشككوا في نواياهم السياسية.

لم يتورّع إعلام الإخوان عن مناصرة حماس في هذه الحرب المدمرة، كفرع لجماعة الإخوان في غزة، وهذا حقهم، لكن أن يحمّلوا أوزارها وأخطاءها للدولة المصرية ويطلبوا منها سد الثغرات التي خلفتها الحركة بلا مراعاة لما ينجم عنها في المستقبل، فهذا قصر نظر ورؤية ضيقة لأن القبول بدخول أهالي غزة إلى سيناء بلا ضوابط سيحقق أغراض إسرائيل الخبيثة، والأكثر أنه يقود إلى تصفية القضية الفلسطينية وإنهاء ما تبقى لإعادة الاعتبار إلى منهج التسوية واسترداد جزء من الحقوق الفلسطينية.

تجاوزت جماعة الإخوان كل هذه المخاوف وقفزت سريعا على مهاجمة النظام المصري مهما كانت حسناته في الدفاع عن الأمن القومي للبلاد، في إصرار عجيب على عدم الخروج من شرنقتها السياسية التقليدية وعدم التفكير بطريقة براغماتية كي تقترب من وجدان الشعب الذي لفظها منذ سنوات، ويلفظ كل من حاول التقرب منها، لأنها لم تعتذر أو ترغب في تصحيح أخطائها.

لا أحد يريد الشماتة في حماس، ولا وقت لعتابها على ما قامت به في مواجهة إسرائيل بلا حسابات دقيقة لعواقبه على الشعب الفلسطيني، لكن لا يجب أن تغدق عليها جماعة الإخوان صفات إيجابية وتضع السلبيات على الدولة المصرية، فالحصار الذي تفرضه إسرائيل منذ سنوات على غزة أصبحت القاهرة تتحمل وحدها وزره وكسره، والجرحى الذين أصيبوا بسبب العدوان على غزة على مصر أن تتكفل بعلاجهم، وكل المشردين من بيوتهم عليها أيضا أن تؤويهم.

لم تجد جماعة الإخوان أهمية لأيّ دور تقوم به مصر وسط أزمة عاصفة يمكن أن تقود الدولة للمشاركة في الحرب، بل تعمل الجماعة عمدا على جرها إلى هذا الخندق، اعتقادا أن ذلك يخفف الضغوط عن حركة حماس، دون التفات للخسائر التي يمكن أن تتكبدها الدولة من وراء الانخراط في حرب لا ترغب فيها أو تسعى إليها. كل جريرة النظام المصري أنه لا يسمح للإخوان بالحركة في الداخل وقوض أدواتهم العسكرية.

يعزز غلبةَ الانتقام في خطاب الإخوان الميراثُ الذي بات لصيقا بهم، وهو أن الجماعة فوق الدولة، وهي الخطيئة التي أوقعتها في الورطة التي تعيشها الآن، فقد مرت بمحن كثيرة بسبب الخلل الفاضح في منهجها السياسي ولم تغيّره، أو تفكر في مراجعته بجدية، وإن فكرت فهو على سبيل المناورة لتجاوز تحديات آنية، ما جعلها حبيسة رؤية شوفينية بدلا من الوقوف في صف القوى الوطنية في المحكات المصيرية.

تشمت قيادات الجماعة وإعلاميوها في أيّ كبوة تمرّ بها الدولة المصرية، وتعتقد أنها انتقام رباني من الرئيس السيسي ومعاونيه، وتسوّقها على أنها نوع من رد الاعتبار الإلهي، ولم تُضبط مرة واحدة تفكر بطريقة تغلّب فيها مصلحة الدولة على غيرها، فكل ما يعنيها أن وهم عناصرها أنها لم ترتكب خطأ وأن رؤيتها صائبة.

جاءت حرب غزة وسقطت الجماعة في وحلها، إذ قدرت أن الحرب مقدسة وحماس منتصرة فيها لا محالة، وإن راح ضحيتها الآلاف من الفلسطينيين وخسروا الأرض، واعتقدت أن مصر يمكن أن تصبح مطية لتنفيذ أهداف إسرائيل في المنطقة، وأدى انسياقها وراء ذلك إلى عدم الرهان على إعادة النظر في مسلّماتها وأفكارها وخطابها.

◙ جماعة الإخوان تحدثت عن مخطط التوطين وكأن القاهرة قبلت به أو رضخت للضغوط الدولية التي تمارس عليها، وكالت الاتهامات للنظام الحاكم وهي محكومة بعقدتها السابقة منه

سقطت الجماعة في حرب غزة مرتين. مرة، بسبب سوء نواياها للدولة المصرية وتشكيكها في القيادتين السياسية والعسكرية وهما تتعرضان لضغوط خارجية كبيرة وتقاومانها لعدم المساس بسيناء والحفاظ على الثوابت التاريخية، ومرة، بسبب ثقتها المفرطة في التيارات الإسلامية وتعويلها على حزب الله اللبناني لإنقاذ حماس من ورطتها، ونجدة غزة والأقصى من براثن الاحتلال الإسرائيلي.

أعمت الشماتة الإخوان عن رؤية الخارطة في الإقليم، وفشلت في قراءة المعطيات وما سوف يترتب عنها، وأبرزها تدجين حماس أو شل حركتها العسكرية، وفي الحالتين على جماعة الإخوان مواجهة مرحلة أشد وطأة مما مرت به خلال السنوات الماضية.

من تعاطفوا في الغرب مع الجماعة أو تصوروا أنها تمثل الجناح المعتدل في تيار الإسلام السياسي بدأوا في إعادة التفكير في هذه الفرضية، وربما تتوالى المواقف لتعزز سقوطها واليقين بأن التغيير لا يأتي من خلال قناة جماعة الإخوان وأشقائها.

فاتت فرصة على الإخوان في مصر ليكونوا رقما سياسيا في المرحلة المقبلة، أو على الأقل في الصف العام للقوى الوطنية، لأن ترتيبات ما بعد غزة سوف تتجاوز القطاع وتمسّ الكثير من دول المنطقة التي فُرضت عليها حرب لم تختر زمانها ومكانها، ومع ذلك حاول بعضها، في مقدمتها مصر، التفاني في القيام بأدوار وطنية وقومية وفلسطينية، والتوفيق بين الالتزامات الدولية وبين مراعاة التوازنات الإقليمية الحرجة.

أنهى الموقف القاتم للإخوان من حرب غزة والعداء المفرط للنظام المصري ما تبقى لدى البعض من أمل في الانحياز للدولة الوطنية، وأكدت العبرة التي ينطوي عليها المثل الذي ذكرته في بداية هذا المقال (يموت الزمار وإصبعه بيلعب).

8