منتدى أصيلة يقارب مستقبل علاقة الغرب بالجنوب في سياق التغيرات الدولية

الرباط - ناقشت سلسلة ندوات منتدى أصيلة في دورته الخريفية التي انعقدت في الرباط السبت والأحد 14 و15 أكتوبر الجاري، مستقبل علاقة الغرب بالجنوب في سياق التغيرات الدولية. وهي إشكالية تطلبت طرح عدد من وجهات النظر لخبراء ودبلوماسيين خبروا الإشكالات المتعلقة بحاضر ومستقبل أوروبا.
ونظرا إلى التحديات التي تواجه الاتحاد الأوروبي على المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، اعتبر الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة محمد بن عيسى أن تعدد تحذيرات كبار القادة السياسيين والمفكرين الأوروبيين في السنوات الأخيرة من انحدار بلدان الاتحاد الأوروبي بالخصوص (وهي الدول التي قادت عهد النهضة التي عرفها العالم منذ القرن الـ16) إلى خطر “الخروج من التاريخ”، يطرح تحديات وانعكاسات على دول الجنوب التي كانت أغلبيتها مستعمرات أوروبية.
سياقات التغيرات الدولية
أكد الوزير السابق للشؤون الأوروبية بإيطاليا فينسينزو أمندولا أن التضامن داخل فضاء الاتحاد الأوروبي يعد من التحديات الأساسية التي يجب أن تعيرها المنظومة الأوروبية الكثير والمزيد من الاهتمام وتعمل على إيجاد حلول لها.
ودعا أمندولا دول الاتحاد الأوروبي، التي تواجه تحديات الهجرة وتداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية، إلى وضع منظور سياسي واضح المعالم في عالم متقلب مع إرساء قواعد أمنية واجتماعية وسياسية لضمان تطور سلس يستوعب كل التطورات، ليضطلع بدوره الأساسي في عالم متعدد الأقطاب.
وشدد الدبلوماسي الايطالي على ضرورة أن تضع الدول الغربية مقاربات سياسية واقتصادية واجتماعية مبتكرة تواكب وتساهم في إيجاد الحلول للتحولات الإقليمية والعالمية ولا تفسح المجال للقوى الأخرى للقيام بذلك نيابة عنها.
وأبرز أن الاتحاد الأوروبي مطالب بفهم سياق التغيرات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، وهو ما يفرض مواكبة التحديات العالمية بشكل فاعل.
بدوره أبرز وزير السياحة والزراعة والتجارة الخارجية المغربي سابقا حسن أبوأيوب أن التعاون المشترك الواضح المعالم بين الاتحاد الأوروبي وباقي دول الجنوب يجب أن يقوم على أسس متينة وبعيدة عن المفاهيم القديمة، وذلك بتغيير نظرته إلى الجنوب كشريك إستراتيجي، فضلا عن العمل على تعزيز السيادة الاقتصادية والأمنية والعسكرية الكاملة والمبادئ الديمقراطية.
و اعتبر أبوأيوب أن من الأخطاء التي وقعت فيها الدول الغربية أن تلك الدول ضيعت فرصة إدماج روسيا في مجالها الإقليمي حينما انتهت الحرب الباردة، مما كان سيخلف وقعا إيجابيا في المنظومة الأوروبية.
وفي سياق تفكيك العوامل المؤدية إلى الواقع الذي تعيشه الدول الغربية شدد خميس جهيناوي، وزير الخارجية التونسي الأسبق، على وجوب تعزيز مفاهيم الحرية والديمقراطية والدفاع عن العدالة والحقوق الكونية، خاصة أن أوروبا تتحرك نحو سياسات منغلقة ومستهلكة على المستوى الداخلي، مما يؤدي إلى انعدام الإحساس الهوياتي وبالتالي ظهور نخب رافضة لهذه التوجهات.
وفي المقابل نوه نبيل بن يعقوب الحمر، مستشار ملك البحرين لشؤون الإعلام، إلى أنه لا يمكن اعتبار أوروبا خارجة عن التاريخ، أو بدأت مرحلة الانحدار، حيث لا يزال لديها تأثير كبير على الساحة العالمية، ومن خلال العمل المشترك والتكامل الأوروبي يمكنها الاستمرار في الحفاظ على تأثيرها وتحقيق التقدم والتطور في العديد من المجالات.
وأشار بن يعقوب الحمر إلى أن أوروبا يمكنها أن تستمر في لعب دور بارز في الشؤون العالمية من خلال العمل المشترك والتحالفات والتفاعل مع التحديات الجديدة بعيدا عن العقلية الاستعمارية والهيمنة التي كانت تمارسها مع دول العالم، وبشكل خاص الدول العربية وبلدان القارة الأفريقية، حيث لم تعد دولا تقبل الهيمنة والرضوخ لأية قوة والاستكانة لأية جهة.
واعتبر ناصيف حتي، وزير الخارجية والمغتربين اللبناني السابق، أن أوروبا تحولت من قوة اقتصادية إلى جغرافية، مؤكدا أن بروز أوروبا دفاعية هو مجرد تمنيات على الورق فقط، بوجود خلافات حول التوسع وتملك المصادر الأولية للطاقة، مثل الخلافات الفرنسية – الألمانية.
وكمراقب للتغيرات على المستوى الدولي اعتبر منسق الندوة الدكتور تاج الدين الحسيني، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة محمد الخامس في الرباط وعضو أكاديمية المملكة المغربية، أن تدهور أوروبا بدأ مع نهاية الحرب الباردة، حينما هيمنت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي على القرار الدولي، حيث كانت هناك فرصة ذهبية بحلم أوروبا موحدة كما تمناها الجنرال شارل ديغول، وكان من الممكن للاتحاد السوفياتي أن يكون طرفا لكن طمع روسيا جعلها تهمش من طرف الأوروبيين وهو خطأ قاتل.
الغرب والقوى الناشئة
يرى رئيس المعهد الدولي للسلام بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا نجيب الفريجي أن أوروبا تواجه تحديات متنوعة ومعقدة، سياسية واقتصادية وأمنية وغيرها، بسبب ظروف موضوعية وأخرى ذاتية.
واعتبر الفريجي أن الاتحاد الأوروبي على وجه التحديد لا يزال يضطلع بدور إستراتيجي مهم وله تأثير على أصعدة حساسة مختلفة رغم أن العالم يعرف بروز قوى ناشئة تشق طريقها بثبات وتطلع في خارطة العالم الحاضر.
وشهدت العقود الأخيرة تحولًا في النظام العالمي، حيث تقدمت العديد من البلدان النامية اقتصادياً وأصبحت تكتسب نفوذاً سياسياً، حسب ما ذكره مستشار الملك البحريني لشؤون الإعلام، وأدى هذا إلى وجود قوى ذات نفوذ في خط متواز مع النفوذ الأوروبي، وبذلك تم تعزيز دور الدول الصاعدة الأخرى بشكل ملفت للنظر.
وأشار الدكتور تاج الدين الحسيني إلى دول بريكس التي جاءت لتجمع قوة اقتصادية وعسكرية لبناء نظام عالمي جديد، مع انضمام الإمارات والسعودية كمصدر مهم للصناديق السيادية إلى مشروع يهدف إلى خلق تحالف قوي عسكري واقتصادي وتكنولوجي موازٍ.
ولفت أبوأيوب إلى الإكراهات التي تواجه المنطقة العربية وأفريقيا، وأبرزها الجهل والفقر ونقائص التنمية.
كما توجد منافسة متزايدة بين الدول الغربية على مناطق النفوذ على المستوى العسكري والاقتصادي والتكنولوجي والتجاري، مع إطلالة الصراعات في مناطق متعددة من العالم كأفريقيا ومنطقة البلقان والشرق الأوسط وجنوب القوقاز، والتحول إلى أزمات جديدة، وهو ما يجعل الأمر تحديا لتلك الدول.
ويرى جهيناوي أن القرار الأوروبي مازال مقيدا بإرادة أميركية، مستدلا على الانقلاب العسكري في النيجر، واحتفاظ فرنسا بقواتها وسفيرها، إلى أن قررت سحبهما عقب عدم اتخاذ واشنطن موقفا صارما.
ويؤكد الحسيني حاجة المجتمع الأوروبي إلى تغيير رؤيته لسياسة الجوار التي من المفترض أن تقوم على التعاون والاندماج بدل التهميش.
الغرب بين القوة ومكامن الضعف
تحت عنوان “بين نوازع القوة والخروج من التاريخ” تطرق رئيس المعهد الدولي للسلام بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا البحريني نجيب الفريجي إلى العجز الذي تشكون منه دول الاتحاد الأوروبي والمنظمات متعددة الأطراف. ويقول الفريجي إن المنظومة تآكلت وحان وقت تجديدها.
ويتساءل الخبير الدولي في مجال التطور المؤسسي والتخطيط الإستراتيجي وحوكمة الكيانات الاقتصادية والاجتماعية مصطفى حجازي: هل المستقبل الأوروبي في تآكل وتراجع أم هي محاولة لإعادة التموضع في التاريخ؟
وبقول حجازي “ليست هناك حالة خروج من التاريخ وإنما إعادة تموضع وهو الأقرب”، مشيرا إلى أنه قياسا على الماضي الكولونيالي لأوروبا قد يبدو هذا تراجعا، أما قياسا على مؤشرات المستقبل فإن أوروبا تعيد التموضع.
وأكد حجازي “لسنا بصدد نظام جيوسياسي جديد، وإنما نحن بصدد تبادل بين إنسانيتين، والذي بدأ منذ عقد من الزمن، فهناك جيلان مختلفان من حيث النسق المعرفي وتسريع عملية التفاعل مع التغييرات بعدما غادرنا عصر الصناعة ودخلنا عصر الذكاء الاصطناعي، حيث ستتغير تحديات القوة بكل تجلياتها الاقتصادية والعسكرية والثقافية في سياق عالمي متعدد الأقطاب، بناء على القوة الفكرية وهو حدث ليس عارضا بل سيغير وجه الحياة”.
وأضاف “إذ لا نتحدث عن فئة مهيمنة وأخرى أقل قدرة بل عن تقنيات جديدة وآلات تحل محل البشر ليتغير مفهوم الهيمنة كليا وبالتالي نحن في حاجة إلى حوكمة غير تقليدية لمواجهة الأمر”.
وفي المقابل ذكر الحسيني أن أوروبا تعاني من عدم التكامل في الرأي بشأن المهاجرين واللاجئين والعمل على امتصاصهم داخل القارة، باتخاذ مواقف انفرادية لا تمثل التضامن الأوروبي. بينما يقول جهيناوي “نريد رؤية أوروبا قوية لأن دورها مهم في التوازن العالمي، كما أن منطقة المغرب العربي يمكنها أن تكون قوية بالنظر إلى شراكاتها في المجالات الأمنية والاقتصادية وغيرها، لكن الأمر يفرض تغيير أوروبا لنظرتها إلى دول الجنوب لأن أمنها واستقرارها مرتبط بأمن جنوب المتوسط”.