اختبار دولي على الساحة الفلسطينية

تكسير عظام السلطة الفلسطينية في رام الله وتفريغ قيادتها من غالبية المضامين السياسية والأمنية منح الفرصة لحركتي حماس والجهاد لتحقيق تقدم على حساب حركة فتح التي تتبنى حلا سلميا للقضية الفلسطينية.
الاثنين 2023/10/09
القضية الفلسطينية لن تسقط بالتقادم

تختلف الحرب التي اندلعت بين حركة حماس الفلسطينية وإسرائيل هذه المرة عن غيرها من الحروب السابقة، فقد كشف ما جرى صباح السبت عن معركة قد تصبح طويلة بين الجانبين، بحكم الخسائر التي تكبّدتها إسرائيل، والتي دفعتها نحو الرد عليها بالمزيد من القوة الغاشمة لاستعادة الاعتبار بعد أن بدت آلتها العسكرية الجبارة في الساعات الأولى عاجزة أمام الوسائل التي استخدمتها كتائب عزالدين القسام.

مع تزايد أعداد القتلى والأسرى في إسرائيل وما سببته المفاجأة من اهتزاز في الروح المعنوية سيكون من الصعوبة الحديث عن وساطات تقليدية، كما حدث في جولات سابقة، حيث تمكنت القاهرة بمفردها أو بمساعدة جهات إقليمية ودولية من وقف العديد من الجولات العسكرية، فالعملية معقدة هذه المرة، وقد تستمر وقتا، وتحتاج إلى ترتيبات واسعة للخروج من مأزق حاد يمكن أن يكلف المنطقة مزيدا من الدمار.

أكدت الحرب وجهة نظر دول عربية عديدة رأت دائما ضرورة حل القضية الفلسطينية أو على الأقل فتح طاقة أمل للعملية السياسية، فكل تحركات السلام والتطبيع وروافده التي يمكن رؤيتها يستحيل أن يكتب لها النجاح وهذه القضية معلقة في الهواء.

عودة فلسطين إلى الواجهة تمثل نقطة البدء في الصراعات الحديثة في المنطقة، وتعني أن قضيتها لن تسقط بالتقادم، وهو ما يحث كل الأطراف على ضرورة العودة إلى العملية السياسية قبل حدوث طوفان يُحدث تحولات دراماتيكية في المنطقة

ما حدث يوم السابع من أكتوبر الجاري بين حماس وإسرائيل قد يكون شبيها بما حدث في السادس من أكتوبر قبل نصف قرن بين مصر وإسرائيل، فالحرب التي وقعت في ذلك الوقت مهدت عمليا لتوقيع اتفاق سلام بينهما بعد نحو ست سنوات منها، ووقتها اقتنعت إسرائيل بأهمية إيجاد حل عملي للأراضي المصرية المحتلة.

قد تغير هذه الجولة من المعارك في قناعات المجتمع الدولي بشأن العودة إلى العملية السياسية، لأن تكسير عظام السلطة الفلسطينية في رام الله وتفريغ قيادتها من غالبية المضامين السياسية والأمنية منح الفرصة لحركتي حماس والجهاد الإسلاميتين لتحقيق تقدم على حساب حركة فتح التي تتبنى حلا سلميا للقضية الفلسطينية.

يمكن أن تدفع حرب السابع من أكتوبر، ولعل للتاريخ دلالته الرمزية في المنطقة، الكثير من الجهات للبحث عن وسيلة لوقفها لمنع الانجرار إلى حرب قد ينخرط فيها حزب الله اللبناني وإيران بصور متباينة، والتفكير في آلية منتجة حيال المرحلة التالية لها، فقد أدى انقطاع الأمل في التسوية السياسية إلى التمادي في الحلول العسكرية.

تشير حالة الفوضى التي سادت صفوف الجيش الإسرائيلي وهدم أسطورته الأمنية واتساع نطاق الخسائر المادية والمعنوية إلى استحالة استمرار النهج القديم في الضربات التأديبية المتقطعة أو المستمرة، ففي الحالتين سيظل الحال مُربكا لكل الخطط والطموحات الرامية لتدشين ترتيبات إقليمية تمنح إسرائيل دورا محوريا فيها.

يبقى تفكيك القضية الفلسطينية الأم، حربا أو سلما، أحد المحددات الرئيسية المتحكمة في تفاعلات المنطقة، ولأن الحل العسكري ثبت عدم قدرته على إنهاء الأزمة فمن الممكن الاستدارة إلى نمط التفكير الذي ساد عقب حرب أكتوبر الأولى، والخاص بإيجاد تسوية سياسية من خلالها يتم إنشاء دولة فلسطينية وفقا لأسس ومبادئ القانون الدولي وضوابط اتفاقية السلام العربية التي طرحتها السعودية قبل نحو عشرين عاما.

حح

يخوض المجتمع الدولي اختبارا حادا هذه المرة، لأن تجاهله السنوات الماضية لدعم عملية السلام أحد المكونات المحورية التي قادت إلى النتيجة البائسة الراهنة، والتي يمكن أن تتزايد صعوبتها مع دخول أطراف غير فلسطينية، فالجبهة اللبنانية يمكن أن تنزلق إلى الحرب، وإيران قد تشارك بدرجات متفاوتة عبر وكلاء لها في سوريا.

يمكن أن يُوجد اتساع الحرب أيضا واقعا على الجبهة المصرية في ظل تمادي الآلة الإسرائيلية في الانتقام من قطاع غزة، والذي بات نقطة ارتكاز في تنامي آلة حماس العسكرية، فمع زيادة جرعات التقتيل والتدمير لن يجد فلسطينيو غزة ملاذا لهم سوى سيناء المصرية، ومع اشتداد القتال قد ينفلت من عقاله باتجاه الجبهتين المصرية والأردنية وكلها ملامح تنطوي على خلق صراع يصعب توقيفه خلال فترة قصيرة.

ربما تسحب حرب غزة الجديدة جزءا من اهتمام المجتمع الدولي بالحرب الروسية – الأوكرانية، لأن انفلات الأولى لن يقل خطورة على الشرق الأوسط عمّا يمكن أن يحدث في شمال شرق أوروبا، ويمكن أن تتلاحم معها معالم كثيرة من توازنات القوى أو اختلالها، والتي ظهرت في حرب أوكرانيا ولا تزال عملية السيطرة عليها صعبة.

لن يكون الحل في زيادة إسرائيل عنفها أو تكثيف جرعاتها العسكرية في غزة، لأن حرب أكتوبر الثانية التي سطّرتها حماس وجدت تفاعلا تجاوز الحدود الفلسطينية إلى الدرجة التي تم تصويرها باعتبارها ملحمة في وقت عزّت فيه الملاحم والبطولات العربية

يمثل فتح طاقة أمل لاستئناف العملية السياسية حلا مناسبا للكثير من الأطراف الإقليمية والدولية، وفي القلب منها إسرائيل والفلسطينيون، فقد جرى اللجوء إلى الأدوات العسكرية بكثافة السنوات الماضية مع الغياب أو انقطاع الأمل في تسوية سياسية تفتح نافذة لحياة أفضل للشعب الفلسطيني، مقابل منح المستوطنين والمتشددين مزايا فائقة في الأراضي المحتلة، وغض الطرف عن تجاوزاتهم المُريعة، وهو ما أوجد تيارا سياسيا عارما متطرفا يسيطر على مفاتيح السلطة في إسرائيل.

يؤدي صمت المجتمع الدولي أو تجاهله أو تقاعسه نحو ما يجري بين حماس وإسرائيل إلى فتح المجال لسيناريوهات لن تقف عند مستوى وقف الرهانات على مشروعات إقليمية تلعب فيها تل أبيب دورا مهما، لكن سوف تضفي معالم قاتمة أشد خطورة على الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، وربما تعيد إليه صبغته العربية الطاغية.

لن يكون الحل في زيادة إسرائيل عنفها أو تكثيف جرعاتها العسكرية في غزة، لأن حرب أكتوبر الثانية التي سطّرتها حماس وجدت تفاعلا تجاوز الحدود الفلسطينية إلى الدرجة التي تم تصويرها باعتبارها ملحمة في وقت عزّت فيه الملاحم والبطولات العربية، ما يوفر دفعة عاطفية يمكن أن تعيد الصراع إلى سيرته الأولى.

كما أن التلاحم بين مقاومي غزة والضفة الغربية ووصول الضربات إلى مدن في قلب إسرائيل، يُخرج الحرب مع حماس والجهاد من سياقاتها السابقة التي كانت محصورة في القطاع تقريبا، وهذه من المرات النادرة منذ حرب 1948 أن تشهد إسرائيل قتالا داخلها من جانب عناصر تسللت إليها بعد أن أصيبت أجهزتها الأمنية بعطب مفاجئ.

دخلت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والصين، ومعهم كل الأطراف الإقليمية المعنية مع اندلاع هذه الحرب في اختبار جاد، فإما التمكن من وقفها خلال مدة قصيرة أو تركها تجرف في طريقها الكثير مما تحقق في السنوات الماضية وأدى إلى تراجع أولوية القضية الفلسطينية لحساب نزاعات إقليمية أخرى ضارية.

تمثل عودة فلسطين إلى الواجهة نقطة البدء في الصراعات الحديثة في المنطقة، وتعني أن قضيتها لن تسقط بالتقادم، وهو ما يحث كل الأطراف على ضرورة العودة إلى العملية السياسية قبل حدوث طوفان يُحدث تحولات دراماتيكية في المنطقة.

8