مشكلة مصر اقتصاد وبقاء أولا

انهمك غالبية المرشحين المحتملين في انتخابات الرئاسة المصرية المحدد لها ديسمبر المقبل في معارك سياسية متفرعة حول ضمانات النزاهة ومنع التجاوزات الأمنية وتوفير الحرية لمرشحي المعارضة للحصول على التوكيلات اللازمة من المواطنين، وتجاهلوا الحديث عن حال الاقتصاد المصري الذي بات لا يسرّ عدوّا أو حبيبا.
تطرق الرئيس عبدالفتاح السيسي كثيرا لتجليات الأزمة الاقتصادية وتبعاتها، لكنه في المقابل تجاهل الجانب السياسي ولم يمنحه الأهمية نفسها لدى المعارضة، وهذا لا يعني أن الاقتصاد أهم من السياسة أو العكس، فهما مكمّلان لبعضهما، فالخلل في أحدهما ربما يفضي إلى خلل في الآخر أيضا.
تقول اعتبارات الواقع الحالي لا أهمية كبيرة لأيّ إصلاح سياسي قبل إصلاح الهيكل الاقتصادي، فمهما سمت الحريات العامة، لن تكون لها أهمية ما لم يشعر المواطنون بأن هناك تغيرات إيجابية في الحالة الاقتصادية التي وصلت إلى أن يعيش نحو نصف المصريين تحت مستوى خط الفقر، فهناك حوالي خمسين مليون نسمة يعانون شظف العيش ويواجهون مشكلات قاسية لتوفير قوت يومهم.
◙ من يستطيع تقديم برنامج ينتشل مصر اقتصاديا بإمكانه كسب تعاطف شريحة كبيرة من المواطنين، وإن لم يتمكن من الحصول على أصواتهم في الانتخابات الرئاسية، فالرهان على من يجد حلا للاقتصاد
لا يهم هؤلاء إذا كانت الانتخابات شفافة ونزيهة أم فاسدة مزورة، ولا يعنيهم إذا نجح السيسي بأغلبية ساحقة أم مطلقة، كما لا يشغل بالهم نجاح أو سقوط أيّ من مرشحي المعارضة المحتملين، فكل ما يهم من يعانون تبعات الأزمة الاقتصادية الطاحنة أن يجدوا شخصا ينقذهم من ويلاتها، أو على الأقل يمنحهم أملا في تجاوزها.
يمثل تخطي هذه العتبة تحديا كبيرا، وربما من المستحيل عبورها في المدى المنظور، لأن تراكمات الأزمة الاقتصادية متشابكة ودخلت نفقا قاتما بما حملته من تداعيات كبيرة، ولن يتم حلها بوعود أو مسكنات أو ترضيات عبر برامج اجتماعية رمزية، ولم يعد مصريون كثيرون يثقون بذلك ويريدون من يقدم لهم حلولا عاجلة.
تفسر التعقيدات التي تخيم على الأوضاع الاقتصادية تجاهل المرشحين للدخول في تفاصيلها، لأنهم لا يملكون فانوسا سحريا يمكنهم من تخطيها، ولا توجد موارد خفية تساعدهم على وقف تصاعدها، كما أن الدول التي كان يُعوّل عليها في إنقاذ ما يمكن إنقاذه سريعا في مثل هذه الحالات رفعت يديها عن القاهرة.
يتعامل السيسي بقدر من الواقعية مع الأزمة الاقتصادية ويشعر بمدى خطورتها، ويبحث عن وسائل من داخل الصندوق وخارجه تمكنه من عدم تفاقمها، فما بالنا بتوفير حلول لوقف زحف روافدها السلبية؟
اجتهدت الحكومة في توظيف الإمكانيات المحدودة للبلاد، ولا تجد أمامها سوى المزيد من الاستنزاف الداخلي بفرض ضرائب ورسوم كبيرة تثقل كاهل المواطنين.
يراهن السيسي في فترة رئاسته الثالثة على تدفق الاستثمارات الخارجية، والاستفادة من نتائج المشروعات التنموية وما حدث من ازدهار في تجديد البنية التحتية، وهما أمران يتوقف مستقبلهما على التحلل من قيود البيروقراطية العتيدة، وتوفير المرونة الكافية في التعامل مع القطاع الخاص، والشروع في تنفيذ ما حوته وثيقة ملكية الدولة، حيث أتاحت الفرصة لبيع عدد من الشركات التابعة للجيش.
◙ تراكمات الأزمة الاقتصادية متشابكة ودخلت نفقا قاتما بما حملته من تداعيات كبيرة، ولن يتم حلها بوعود أو مسكنات أو ترضيات عبر برامج اجتماعية رمزية
ويظل الرهان محفوفا بمخاطر متعددة، فعلى الحكومة مواجهة من يعرقلون توجهاتها الاقتصادية بالصورة المرسومة لها، وتوقّع حدوث مفاجآت عالمية ترخي بظلال سلبية على الأوضاع الاقتصادية في البلاد، كما حدث مع أزمتي كورونا والحرب الروسية – الأوكرانية، فما جرى من تحولات ينذر بأن الاقتصاد سوف يكون أول ضحاياها.
إذا كان السيسي يتعامل مع الاقتصاد على اعتبار أنه معركة بقاء أو فناء، فإن خصومه يتعاملون مع السياسة على أنها حياة أو موت، وقد يكون الأول يدرك حجم الأزمة وما يمكن أن تجلبه في المستقبل على بلاده، وربما لأنه لا يولي اعتبارا للسياسة ويتعامل معها كنوع من الرفاهية، فالمجتمع الفقير لا يكترث بالحريات في الدولة أو إذا كان حاكمه ديمقراطيا أم دكتاتوريا، فالمهم أن يوفر له الأدوات التي تساعده على الحياة.
تبقى إشكالية العلاقة بين الاقتصاد والسياسة محتدمة بين الحاكم ومعارضيه في دول العالم الثالث، إذ يعتقد الأول أن المواطن الذي يتوافر له المأكل والمشرب والملبس والسكن لن يلتفت إلى السياسة، بينما المعارضة تتعامل معها باعتبارها وسيلة الحياة الرئيسية لدواعي تخصها من بينها أن هناك دولا عديدة غيّبت السياسة ولم تتمكن من تحقيق مستوى اقتصادي جيد، وحققت فشلا وإخفاقا، أو نهبا وفسادا، وما لم تكن هناك جهات رقابية سوف تختفي المحاسبة ويصبح التقدم الاقتصادي عرضة لفساد سياسي.
استهلكت مصر، ودول عدة، وقتا طويلا في معادلة العلاقة بين الاقتصاد والسياسة، وفي هذه المرحلة بات الجدل حولها رفاهية كبيرة، فالأزمة بلغت حدا يصعب معه إدارة الدولة، والطبقة التي تعاني من مشكلات معيشية تزداد اتساعا، ما يجعل انهماكها في السياسة ومتابعتها لبرامج المرشحين يرتبطان بمن يستطيع انتشالها من الفقر.
◙ الرئيس عبدالفتاح السيسي تطرق كثيرا لتجليات الأزمة الاقتصادية وتبعاتها، لكنه في المقابل تجاهل الجانب السياسي ولم يمنحه الأهمية نفسها لدى المعارضة
ولأن هذه المسألة قاسية في مصر، ولا أحد يملك عصا سحرية لتجاوزها فضّل الكثيرون عدم التركيز على الاقتصاد أو الاكتفاء بملامسة النقاط العامة فيه التي لا تنطوي على قدرة حقيقية لتجاوز الحالة المعقدة الراهنة، من قبيل إلقاء الاتهامات على النظام الحاكم وتحميله المسؤولية وعليه وحده البحث عن حلول لها، انطلاقا من دوره في تفاقمها، بينما المواطن لا يهمه من تسبب في الأزمة، بل من ينقذه من براثنها.
هرب مرشحو المعارضة في مصر من خندق الاقتصاد إلى مربع السياسة لأنهم يفتقرون إلى المنهج الذي يمكّنهم من تجاوز الأزمة في الأول، بينما يملكون الأدوات التي تساعدهم على التلاعب في الثاني، فلغة الاقتصاد واضحة ومحددة وتعتمد على علم وأرقام وإحصائيات، في حين لغة السياسة فضفاضة ومطاطة وتقوم على مهارات شخصية لا علاقة لها بالمنطق أحيانا، فالقدرة على جذب الناس للخطاب السياسي أهم من المضمون الذي يحمله للتعامل مع الأزمات المستعصية وتقديم الحلول لها.
يمثل حل الأزمة الاقتصادية مدخلا مهما لحياة سياسية مستقرة، لأن الأخيرة لن تتحقق في دولة غارقة في الديون والتضخم والأسعار المرتفعة، فهناك فئة كبيرة من شعبها لا تتابع نقاشات النخبة المحتدمة على مواقع التواصل الاجتماعي أو تشاهد برامج التوك شو الليلية التي تبشر الناس بالجنة الاقتصادية وحياتهم الحقيقية بائسة.
من يستطيع تقديم برنامج ينتشل مصر اقتصاديا بإمكانه كسب تعاطف شريحة كبيرة من المواطنين، وإن لم يتمكن من الحصول على أصواتهم في الانتخابات الرئاسية، فالرهان على من يجد حلا للاقتصاد وليس من يفتح بابا جديدا لزيادة عدد الأحزاب والصحف والفضائيات، فالمواطن يتغذى على الخبز، أو العيش كما يسمّى في مصر، وليس على حريته المطلقة في الكلام.