شهداء مصر في ليبيا أبطال ينتظرون التكريم

فتحت الفاجعة التي حلت بمدينة درنة الكثير من القضايا الحيوية التي تتعلق بعلاقة مصر وليبيا، من بينها زاوية ربما لم يلتفت إليها كثيرون وتتعلق بضحايا مصريين يقدر عددهم بنحو أربعمئة مواطن راحوا نتيجة الإعصار والفيضانات وانهيار سدي درنة، وعادت جثامين حوالي مئة منهم، ولا يزال الباقون في عداد المفقودين.
تحركت القاهرة على مستويات عدة لمساعدة الشعب الليبي في محنته وهذا أمر تناولته وسائل إعلام عدة من قبل، وقامت الحكومة بصرف تعويضات مناسبة لأسر الضحايا من المصريين، لكنها بخلت على هؤلاء منحهم صفة الشهداء كنوع من التكريم، حيث يستحقونه مع أن غالبيتهم من العمال البسطاء الذين ينتشرون في أماكن عدة.
ذهب الضحايا – الشهداء إلى ليبيا بحثا عن الرزق وهم يدعمون اقتصاد الدولة بالعملة الصعبة ويحملون عبء أسرهم الفقيرة، وعلى عكس الكثير من المهاجرين المصريين، يقوم العمال بتحويل كل ما لديهم من مدخرات عبر بنوك وطنهم، ويؤسسون دائما شبكة أمان مادية لذويهم، ويملكون شعورا بالعودة وعدم الرحيل الدائم.
عندما تريد الدولة المصرية أن تضفي وطنية زائدة على من ضحوا بأنفسهم تسبغ عليهم صفة الشهداء، وقد تكرر ذلك في كل المعارك التي خاضتها عناصر من القوات المسلحة وجهاز الشرطة في مواجهة الإرهابيين والمتطرفين السنوات الماضية، ولا تزال تحتفي بهم وذكراهم لا تفارق شريحة كبيرة من المواطنين.
◙ العمالة المصرية في ليبيا تحتل مرتبة متقدمة بين جنسيات عدة تقطنها، وقد لا تتوافر إحصائيات رسمية دقيقة، لكن ثمة اعتبارات متباينة جعلت منهم ركنا أساسيا منذ عقود طويلة
من ذهبوا ضحية العواصف والفيضانات في ليبيا نوع نادر من المصريين، حملوا جينات وطنية بدأت تتلاشى في عالمنا العربي، عاد بعضهم في نعوش من درنة أبكت أسرهم، فالتضحيات التي تقدم من البسطاء تحمل في جوهرها الكثير من المعاني الإنسانية، ولم يفكر هؤلاء يوما في أن يسجل ذلك في حساب البذل والعطاء للوطن أو ينتظرون منّا أو شكورا، إنه رحيل صامت يستحق من الدولة المزيد من التكريم.
تكررت الحوادث الجماعية للمصريين في أماكن مختلفة، منها ما هو بفعل الطبيعة والصدفة وروافدها، ومنها ما كان مخططا نتيجة حسابات معقدة في الدول التي عملوا بها، وفي كل الأحوال لم يحظ بعض المصريين بمكانة تتناسب مع وفائهم وإخلاصهم.
لم تعد ظاهرة العمالة المصرية منتشرة كما كانت سابقا، وعاد مئات الآلاف منهم لأسباب تتعلق بالتوطين والواقع الاقتصادي الجديد، وعلى الرغم من العودة البائسة غالبا والمظفرة أحيانا، قام معظم المحسوبين على طبقة العمال بما يفوق غيرهم من الطبقات الأخرى في دعم الاقتصاد المصري، فقد رحلوا عن بلدهم وفي ذهنهم العودة بحصيلة مادية تعينهم على مواصلة الحياة في وطنهم.
يتذكر مصريون في القرى والريف أول شيء يقوم به العامل عقب هجرته إلى أي دولة، حيث يقوم بتحويل أمواله إلى أسرته أولا بأول، ولا يدخر في غربته سوى النزر اليسير الذي يساعده على الحد الأدنى من الحياة، سافر وفي ذهنه بناء منزل في بلدته وتأسيسه من جميع مشتملاته إلى حين عودته.
بصرف النظر عما إذا كان ما تبقى معه من مدخرات يصلح لإنشاء مشروع أم لا، فالمهم أنه يحقق أمله في بناء السكن، قد يكون هذا هدف بسيط وغير اقتصادي، لكنه دال على نمط التفكير الذي يحكم تصرفات البسطاء، وتستفيد منه الدولة في دورة رأس المال منذ تحويل أمواله من الخارج وحتى تشغيله بأي طريقة في الداخل.
يستحق ضحايا النعوش الطائرة والأعاصير والفيضانات والاعتداءات الفردية في الخارج نوعا خاصا من التكريم تقوم به الدولة، لأن العمال هم الفئة الأكثر عددا وولاء واقتناعا بفكرة العودة إلى الوطن.
هناك من ينافسونهم في ذلك، إلا أن النخبة المصرية أكثر ارتباطا بالأماكن التي ترحل إليها، ويبذلون جهدا في البقاء لأطول فترة، ويراودهم استسلام للهجرة وعدم العودة.
شجع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي هجرة العمالة المؤقتة عند حديثه عن الأزمة السكانية المتفجرة مؤخرا، وفي عقله أن هؤلاء يمثلون رصيدا ماديا غير مباشر، فالثروة البشرية يمكن أن تسهم في حل جزء من الأزمة الاقتصادية إذا أحسن استثمارها، وتعاملت معها أجهزة الدولة بالطريقة التي تناسبها من التقدير المعنوي.
◙ من ذهبوا ضحية العواصف والفيضانات في ليبيا نوع نادر من المصريين حملوا جينات وطنية بدأت تتلاشى في عالمنا العربي عاد بعضهم في نعوش من درنة أبكت أسرهم
يرحل المصري ولا يفارقه وطنه وهمومه، على خلاف مواطني دول أخرى يرحلون ويخططون لعدم العودة، ربما لأن مصر بها درجة عالية من الأمن والاستقرار أو أن هناك ارتباطا عفويا بها جرى تعزيزه عبر أزمنة مختلفة، ويظل الفلاح البسيط الذي تهيمن عليه فكرة الإخلاص للأرض والزرع والضرع الأكثر حرصا على العودة.
يمكن أن يفتح تعامل الدولة المصرية مع ضحايا ليبيا كشهداء الباب للحصول على كثير من المزايا السياسية، أبرزها أن الشهداء ليسوا فقط عناصر الجيش والشرطة والقضاء الذين ذهبوا ضحية عنف الإرهابيين، فالفكرة رمزية وتستوعب تحتها الكثير من الأشخاص، وهي إشارة تقدير للعمال ورسالة للمتفانين في خدمة الوطن بعيدا عن الطبقة التي ينتمون إليها والصفة التي يحملونها والوظيفة التي يعملون بها.
تحتاج الدولة إلى مواجهة حزمة كبيرة من التحديات لتعزيز فكرة الوطن عبر لمسات لن تكلفها الكثير من الأموال، ومردودها العام سيكون وفيرا في ظل محاولات ضارية للاستقطاب والتحريض والفتنة تقوم بها جماعات لتقسيم المصريين بموجب طبقاتهم الاجتماعية ومهامهم الوظيفية وتقزيم العمال وتضحياتهم داخل الدولة وخارجها.
تقوم نهضة الدول على أكتاف وسواعد العمال، وما لم يكن هؤلاء يحظون بالتقدير يمكن أن يتعرض أحد أعمدة الوطن للتآكل، نتيجة التقليل من المهام التي يقومون بها، وهي عظيمة في شقها الاقتصادي مع تصاعد الأزمات الاجتماعية في الآونة الأخيرة.
يلعب العمال المصريون في الدول التي عملوا بها بعد أن رحلوا إليها دور الطليعة أو المقدمة أو فيلق الاستطلاع الذي يمكن أن يجلب المزيد منهم إذا أحسنوا أداء المهام الموكلة إليهم، فهناك ما يشبه صراع الجنسيات في الدول التي لا تزال تستقدم عمالة من الخارج، والحكم والفيصل والمعيار لقياس الجودة هو مستوى الأداء العام.
تحتل العمالة المصرية في ليبيا مرتبة متقدمة بين جنسيات عدة تقطنها، وقد لا تتوافر إحصائيات رسمية دقيقة، لكن ثمة اعتبارات متباينة جعلت منهم ركنا أساسيا منذ عقود طويلة، وفي أوج الثورة التي اندلعت منذ أكثر من عشرة أعوام وما اصطحبته من تداعيات بقي عدد كبير من العمال المصريين لم يبرحوا أماكنهم، وهذا دليل آخر على أن ضحاياهم بسبب دانيال يستحقون لقب شهداء مصر في ليبيا.