السلام العالمي الموهوم

لا يكاد يمر يوم من حياة كوكبنا البائس الذي يئن تحت وطأة النزاعات والحروب والفقر والمجاعة والأمراض والتشريد والتهجير والمدار عمليا وفق قانون الغاب، والمحكوم بنزعات الاستغلال والترهيب والهيمنة والمهدد وجوديا بسبب ظاهرة تغير المناخ، حتى نسمع دعوات من زعماء العالم، وخاصة الولايات المتحدة، حول ضرورة إحلال السلام والاستقرار في البؤر الملتهبة على كوكب الأرض. لكن مع كل صيحة مخاتلة جديدة تنادي بالسلام نشهد العكس على أرض الواقع، فلا نكاد ننتهي من فصول كارثة حتى نشهد ولادة كارثة أخرى أكثر فظاعة وهكذا دواليك. واليوم لا تخلو قارة من قارات العالم من الحروب، ويبدو أن القائمة ستطول ولن تقصر، خاصة إذا خدم ذلك مصالح وأجندات الأوصياء على الكوكب.
وهذا التضارب بين المنشود والواقع لا يعكس فقط الكذب والنفاق وازدواجية المعايير لدى أسياد أو أقوياء الكوكب بقدر ما يعكس طوباوية فكرة السلام العالمي نفسها. وبالتالي استحالة تطبيقها بين الكيانات السياسية على وجه البسيطة ضمن النظام الدولي الحالي المشيد على الفوضى والمجبول من الجشع والطمع ونزوع الهيمنة، والذي يؤدي بدوره إلى المزيد من منسوب النزاعات.
وما يؤكد طوباوية مفهوم السلام العالمي كنظرية وتطبيق، والذي بات شعاراً للمتاجرة والمناورة والمراوغة، هو التاريخ والحاضر الزاخران بالشواهد التي تبرهن على أن الحرب هي القاعدة وأن السلام الشكلي والقسري والمؤقت الذي يتخلل الحروب هو الاستثناء، بالإضافة إلى أن فترات السلام المؤقتة لم تكن سوى هدن اضطرارية مفروضة زائلة ومجرد استراحات طويلة للمتحاربين لإعادة التسلح والاستعداد من جديد لخوض حروب أكثر شراسة.
لا ينقاد الإنسان نحو حالة المدنية إلا قسرا وعن طريق تطبيق القانون بالقوة وضمن جغرافيا سياسية معينة يسميها بالدولة
وبالنظر إلى قائمة الميزانيات العسكرية الضخمة لدول العالم لعام 2023، ولاسيما العظمى منها، يتبين من خلال المبالغ الباهظة المخصصة لوزارات الدفاع التي هي في الجوهر وزارات للهجوم وخاصة لدى القوى العظمى دوليا وإقليميا، أن شبح الحروب يخيم على كافة أجواء المعمورة وأن سيناريو الصدام بما فيه الأسوأ هو الأقرب إلى طبيعة ونزعات القادة والزعماء، وما التشدق بالسلام المنشود والمزعوم والموهوم سوى لذرّ الرماد في العيون. فميزانية الدفاع (الهجوم) الأميركية لسنة 2023 تجاوزت 1 تريليون دولار مقابل 80 مليار دولار لوزارة التعليم، أي بفارق شارف الـ13 ضعفا.
تتجلى نزعة العسكرة وخوض الحروب والتصعيد لدى أسياد العالم في الأموال الهائلة التي يخصصونها للحروب المصيرية بالنسبة إليهم مقابل الفتات الذي يصرفونه لمساعدة الدول النامية بعد ممارسة شتى صنوف الابتزاز ضدها واسترداد أضعاف ذلك الفتات بطرق ملتوية. منذ اتفاقية كامب ديفيد للسلام بين مصر وإسرائيل سنة 1978، أي منذ 45 سنة، منحت الولايات المتحدة، وفق موقع الخارجية الأميركية، ما يقارب 50 مليار دولار لمصر كمساعدات عسكرية و30 مليار دولار كمساعدات اقتصادية، أي بمقدار 1.7 مليار دولار سنويا. بالمقابل، منذ اندلاع الحرب الروسية – الغربية في أوكرانيا في 24 فبراير 2022، صرفت الولايات المتحدة حتى الآن 50 مليار دولار كمساعدات عسكرية واقتصادية لكييف وأنفق الاتحاد الأوربي 45 مليارا في الاتجاه نفسه.
ولطالما كان موضوع طبيعة الإنسان الشريرة ونزوعه الدائم نحو العنف والحرب والسيطرة وتوجسه من الآخرين وهاجس البقاء لديه الذي يدفعه للتصادم مع الآخرين وردعهم واعتبار الفرد نموذجا مصغرا من الدولة محط اهتمام ومثار جدل وخلاف بين جموع الفلاسفة والمفكرين على مر التاريخ. في مؤلفه الشهير “اللفياثان” يوضح هوبز أن الإنسان كائن أناني لحد الإفراط ولا يكترث لشيء سوى لمصلحته وبقائه حتى إذا كان ذلك على حساب سلامة ومصالح الآخرين. وقد لخص ذلك في عبارته الشهيرة “الإنسان هو ذئب لأخيه الإنسان” وهذا ما يؤدي إلى “حرب الجميع ضد الجميع”.
منذ بداية الخليقة والسلام ليس بمسعى إنساني، وإنما الحرب هي المسعى لأنها تصنع الأمجاد التي يلهث وراءها الإنسان
وكنتيجة فإن طبيعة الإنسان تدفعه نحو العزلة والأنانية والتوجس من الآخرين والتصادم معهم، وهذا ما يسميه هوبز بحالة الطبيعة. ولا ينقاد الإنسان نحو حالة المدنية إلا قسرا وعن طريق تطبيق القانون بالقوة وضمن جغرافيا سياسية معينة يسميها بالدولة والتي يرى أنها تتجلى في أبهى صورها في النظام الملكي لا الجمهوري. وبالرغم من الخلاف في الرأي بين هوبز من ناحية وكل من جون لوك وجان جاك روسو وإيمانويل كانط من ناحية ثانية، إلا أنه يكاد يتفق الجميع حول نزوع الإنسان الدائم نحو العنف لتحقيق السيطرة. فكانط مثلا يوضح بأن الإنسان ليس كائنا اجتماعيا بطبعه وإنما هو ميّال إلى العزلة، لكن الظروف الموحشة المحيطة به هي التي تدفعه للانخراط في مجتمع لحماية نفسه.
لكن الحل الذي أجمع عليه الفلاسفة أعلاه والذي تمثل في تطبيق القانون الوضعي من قبل أجهزة الدولة ضمن الجغرافيا السياسية الواحدة تعثر تطبيقه على صعيد النظام الدولي الفوضوي الأمر الذي أدى ويؤدي إلى ولادة وتكاثر الحروب. وهذا ما حدا بكبار منظري النظرية الواقعية في العلاقات الدولية في القرن العشرين مثل كينيث والتز الذي ابتكر الواقعية البنيوية في العلاقات الدولية إلى القول بأن غياب سلطة مركزية عالمية يعتبر من أحد الأسباب التي تؤدي إلى الفوضى وحدوث الحروب والنزاعات. وبما أن الإتيان بمثل هذه السلطة العالمية هو فكرة طوباوية صرفة، لذلك فإن الحديث عن تحقيق السلام العالمي ضمن المعطيات الراهنة التي لم تتبدل في الجوهر منذ نشوء الخليقة هو عبارة عن تخريف وهذيان.
منذ بداية الخليقة والسلام ليس بمسعى إنساني، وإنما الحرب هي المسعى لأنها تصنع الأمجاد التي يلهث وراءها الإنسان. لذلك بقي مسعى السلام حلما راود مخيلة الشعراء والأدباء والفلاسفة، لكنه لم يقترب البتة من مخيلة الأنبياء والقادة والسياسيين ورجالات الدولة. وجميع فترات السلام المؤقتة التي شهدها الكوكب جاءت مفروضة على القادة والدول ولم تكن عن قناعة، بمعنى أنها جاءت بعد الهزائم المنكرة التي منيت بها الأطراف التي وقعت على شروط السلام بالنسبة إلى المنتصرين وشروط الاستسلام بالنسبة إلى المهزومين، وبعد أن سئم وتعب الجميع من الحروب وما جلبت لهم.
ونشدان السلام بعد الحرب لا يعتبر خطوة صادقة ونزيهة لأنها تأتي قسرا ونتيجة الخسائر في الأرواح والممتلكات. لكن السعي المخلص والنزيه نحو السلام هو الذي يسبق نشوب الحروب ويتفاداها ويستأصل أسبابها. وهذا ما لم ولا ولن تشهده البشرية بسبب طبيعة الإنسان الشريرة والأنانية وطبيعة القادة والساسة ورجالات الدولة الأكثر شراً وأنانية. هذا ما عدا أن صناعة الحروب نفسها والتي باتت صناعة رسمية من صناعات الدول العظمى تدر أرباحا إضافية لم تكن في الحسبان وتشفي غليل القادة في الهيمنة والانتقام من الخصوم.
وكما يقول بوذا “ما زال العالم مقيداً لأنه لم يتخلّ عن كلمة أنا”، وبما أن القاطنين في العالم فرادى وجماعات ليسوا في وارد التخلي عن الأنا وإنما في تحطيم الآخر لحماية الأنا تحت ذريعة البقاء، لهذا فإن الأقوياء سيمضون قدما في غيهم لإفزاع الضعفاء الذين بدورهم سيكشرون عن أنيابهم في وجه الأضعف منهم، وهذا ما يمكن تسميته بقانون الغاب الدولي. لهذا وذاك سيبقى السلام العالمي وهما يخدع به أقوياء العالم الضعفاء وسيظل حلما يدغدغ مشاعر المؤمنين به عله يقيهم قليلا من بشاعة وجحيم العالم الحقيقي المعيش وينقلهم إلى العالم الافتراضي الذي طالما حلموا به والمحال تحقيقه على الأرض.