الأنا والآخر في ميزان العقل الكردي 2 / 2

الجزء الثاني والأخير يعرض بعض الأمثلة التاريخية والراهنة التي تبرهن على لعب الكرد الدور الأبرز في حرمان أنفسهم من الدولة المستقلة في بدايات القرن الفائت وعدم أهليتهم لذلك الاستحقاق، والمواظبة على ارتكاب نفس الأخطاء الفادحة في الوقت الحاضر وإن بصور مغايرة والتي تبعدهم أكثر من تحقيق ما يصبون إليه في الحرية والاستقلال.
وفق هذا المنطق الفريد، أي إدانة الآخر بالمطلق وتنزيه الذات أو الذوات بالمطلق، يقرأ ويكتب ويعلل الكردي تاريخه القديم والحديث والمعاصر. ولهذا، يؤمن الكردي بأن جميع زعمائه الذين أشعلوا ثورات وانتفاضات في الماضيين البعيد والقريب في سبيل انتزاع الحقوق كانوا دهاة وحكماء وعقلاء، لكن القوة فقط التي كانوا يفتقرون إليها والتي كانت تميل لصالح الآخرين هي التي لعبت الدور الحاسم في الإخفاقات التي مني بها الكرد على التوالي، مع العلم أن الكثير من صفحات التاريخ تشي بعكس ذلك.
في الوقت الذي كان فيه الشريف الحسين بن علي ينسق فيه مع الإنجليز ضد الإمبراطورية العثمانية أثناء الحرب العالمية الأولى مقابل الاعتراف باستقلال العرب بعد انتهاء الحرب، وفي الوقت الذي أبهر فيه مصطفى كمال مؤسس تركيا الحديثة الغرب بأفكاره العلمانية ورضخ لكافة شروط بريطانيا مقابل الاعتراف باستقلال تركيا الجديدة، كان الكردي محمود الحفيد في السليمانية قد أعلن الحرب ضد الإمبراطورية البريطانية، التي لم تكن تغيب الشمس عنها، في العراق وضد روسيا في إيران! علما أن الإنجليز قد دعوه إلى المفاوضات لمناقشة مطالبه، إلا أن الزعيم الكردي الديني المتشدد رفض الدعوة.
لو خصَّص الكرد ربع الوقت والتركيز الذي يخصصونه من أجل هجوم وعتاب ونقد الآخر، على نقد الذات أو الذوات الجمعية الكردية بدلا من ذلك، لكان وضعهم أفضل بألف مرة مما هو عليه الآن
عندما نجح الجنرال الكردي المتنور شريف باشا في إقناع الحلفاء المنتصرين خلال مؤتمر سيفر سنة 1920 والمؤتمرات الدولية الأخرى التي سبقته بمنح الشعب الكردي حق الاستفتاء على الاستقلال، عارض الكثير من وجهاء الكرد توجهات الجنرال ونفوا أن يكون هو أو الهيئة القومية الكردية التي كان يرأسها آنذاك ممثلين عن الكرد.
نفس الخيبة حصلت مع كاميران بدرخان وأخيه جلادت عندما توجها برفقة الضابط الإنجليزي الميجر إدوارد نوئيل من إسطنبول إلى المناطق الكردية في 1919 كممثلين عن جمعية التعالي والترقي الكردية، حيث التقيا ببعض الوجهاء الكرد. قال كاميران بدرخان للوجهاء “إننا إذا أوقفنا تأليب الزعماء ورؤساء العشائر وكسبنا وِدَّهم وتأييدهم استطعنا إحراز دعم الدول الكبرى وتأييدها في إنشاء دولة كردية مستقلة. ولهذا ينبغي لكم أن تؤازرونا وتمدوا لنا يد العون والتأييد”. وجاوب الوجهاء “إنكم لا تعرفون شيئا عن الأوضاع والعداء والمنازعات، فإن كل كبير عشيرة نسيج وحده، مستبد برأيه، يرفض أن يكون تابعا لغيره أو خاضعا لأي سلطان، لذلك فلن تجدوا من يرتاح إلى تأسيس دولتكم هذه. وإنني أنصحكم بالرجوع عن فكرتكم فلن تجنوا شيئا”. وتابع كاميران “هكذا أخفقنا إخفاقا ذريعا منذ الوهلة الأولى، ثم كانت مساعينا الأخرى سلسلة من الخيبة والإحباط ولم نجد بدا من العودة إلى إسطنبول”.
ثم شهدت المراحل اللاحقة ولادة انتفاضات في مناطق كردية بقيادة رجالات الدين، وادعى معظم الباحثين الكرد بأن تلك الانتفاضات كانت قومية مئة في المئة، علما أن الكثير من الوثائق التاريخية تشير إلى أنها كانت دينية إسلامية. على سبيل المثال لا الحصر، الشيخ سعيد بيران الذي أشعل انتفاضة سنة 1925 “بدأ حركته باسم الله واتخذ له راية خضراء هي راية النبي محمد، كما حمل شعارا لتحيا الخلافة ولتسقط الجمهورية، وكان الشيخ سعيد يُلقب بخادم المجاهدين”. وتشير نفس المصادر التاريخية إلى أن الحكومة الكمالية أضفت على تلك الانتفاضة الطابع القومي الكردي عن سابق نية وتصور لإثارة النعرة الطورانية لدى الأتراك ولعزل الانتفاضة عن بقية العالم الإسلامي. ومما يؤيد هذا الاعتقاد هو أن التمهيد لانتفاضة بيران بدأ عمليا في أعقاب إلغاء أتاتورك للخلافة رسميا في الثالث من مارس 1924، تنفيذا لشروط إنجلترا مقابل اعتراف الأخيرة باستقلال تركيا الحديثة.
اقرأ أيضاً:
وبعد مرور مئة عام على ولادة المأساة الكردية بالمعنى الحديث، لم يتفق الكرد إلا على أن لا يتفقوا وما زالوا غير موحدين حول ماهية وطبيعة الحقوق التي ينادون بها داخل كل جزء من الأجزاء الأربعة، لا بل لم يستطيعوا إلى الآن بلورة لغة وأبجدية وحروف واحدة مشتركة، فمنهم من يتحدث الكرمانجية ويكتبها بالأحرف اللاتينية والبعض الآخر يتكلم الصورانية المختلفة إلى حد كبير عن الأولى ويكتبونها بالأحرف العربية، والذريعة الكردية في تبرير ذلك هي عدم وجود دولة مستقلة للكرد. وما زالت الخلافات والعداوات والخصومات حول الزعامة على أشدها ومن سيئ إلى أسوأ حتى بلغ الجنون الكردي إلى حدود استنجاد الكردي بالدول التي تضطهد الكرد وتأليبها ضد أخيه الكردي.
وبعد أرتال من الانكسارات والانتكاسات لا يزال الكردي متشبثا برأيه في تبرئة ذاته أو ذواته من جريمة حرمانه من الحقوق وما زال مواظبا ودائبا على إدانة وتجريم وشيطنة الآخر بالمطلق. ولهذا لا يفهم الكردي حاضره كما لم يفهم ماضيه ويستمر في ارتكاب نفس الأخطاء وتكرارها بحرفية واتقان لأنه لا يعتبرها أخطاء ولأن مدخله نحو فهم تاريخه وحاضره مبني على الفرضيات الخاطئة والمقدمات الخاطئة التي لا تؤدي إلا إلى نتائج خاطئة.
لو خصَّص الكرد ربع الوقت والتركيز الذي يخصصونه من أجل هجوم وعتاب ونقد الآخر، على نقد الذات أو الذوات الجمعية الكردية بدلا من ذلك، لكان وضعهم أفضل بألف مرة مما هو عليه الآن من حيث تشخيص العلل ووصف الترياق الناجع لها والمباشرة في الإصلاحات. لكن المحاذير الكثيرة التي تحوم حول نقد الذات أو الذوات الجمعية المتناقضة وتضفى عليها هالة من القداسة الوهمية تحول دون ذلك. حتى إن مفهوم الذات الجمعية أو الهوية الجامعة أو روح الأمة كما يسميها المفكر الفرنسي غوستاف لوبون ملتبس وغامض ولم يتبلور بعد عند الكرد. والسبب يكمن في أن جل الكرد يلخصون ذات وروح الأمة في قائد معين أو حزب معين أو حتى عشيرة وعائلة معينة.
التاريخ البعيد والقريب زاخر بالأمثلة التي تشير إلى أن جميع الشعوب والأمم التي قارعت التخلف والجهل وهشمت قيود الانحطاط ودشنت سبل الازدهار، إنما فعلت ذلك كله انطلاقا من الذات وبفضل الذات وليس انطلاقا من الآخر أو بفضل الآخر. حقّقت ذلك أولا بنقد وفضح وتلعين الذات بعد إسقاط القدسية الزائفة والتمجيد المفتعل الوهمي عنها. قرأت تاريخها وحاضرها بعيون فاحصة مدققة نقدية وليس بتأليه وتقديس كل ما ينسب إلى تاريخها وحاضرها وإيجاد المسوغات الوهمية الواهية للإخفاقات والانكسارات.