خطة باتيلي في ليبيا تنتهي إلى الفشل

أحد عشر شهرا لم تكف المبعوث الأممي لحل الأزمة الليبية.
الاثنين 2023/08/07
مبعوث عاجز عن تقديم حلول

أوشك المبعوث الأممي إلى ليبيا عبدالله باتيلي على تمضية عام بأكمله دون أن يقدم حلا يذكر للأزمة الليبية، فحتى الانتخابات التي وعد بإجرائها نهاية العام الحالي لن تحدث، والحل السياسي الذي رأى أنه لا بد أن يكون من الداخل يبدو أن الليبيين غير مقتنعين به بينما يسعى بعضهم لتعطيله لتحقيق استفادة قصوى من حالة الفوضى السياسية والمؤسساتية.

لم يعد أمام الدبلوماسي السنغالي المخضرم عبدالله باتيلي إلا الاعتراف بفشله في مهمته كرئيس لبعثة الأمم المتحدة في ليبيا بعد 11 شهرا من تعيينه في هذا المنصب وتقديمه كأول أفريقي يتصدى لهذه المهمة التي أطاحت قبله بثمانية مبعوثين وأفقدت الدور الأممي هيبته وأغرقته في صحراء الفشل والخيبة.

منذ تسلمه لمهامه، اعتقد باتيلي أنه سيأتي بما لم يستطعه الأوائل. الحقيقة أن الرجل كان متفائلا أكثر من اللزوم، والأطراف الدولية التي بادرت بدعمه كانت تعتقد أن أفريقيته قادرة على منحه فرصة تحقيق اختراق في الأزمة المتفاقمة منذ 12 عاما في البلد الثري بشمال القارة، لكن الوقائع جاءت بعكس التطلعات، وحسابات البيدر خيّبت حسابات الحقل، ووحدهم الفرقاء الليبيون أثبتوا أنهم قادرون على الضحك على ذقون المجتمع الدولي.

ولا أعتقد أن موقف السيد باتيلي اليوم يختلف عن موقفه في أول إحاطة له تقدم بها إلى مجلس الأمن في 24 أكتوبر 2022 عندما قال إن الأزمة السياسية في ليبيا لا تزال قائمة دون أن تلوح في الأفق نهاية واضحة للمأزق الذي طال أمده بشأن السلطة التنفيذية، وإن “الجهود المبذولة لحل القضايا العالقة المتبقية والمتصلة بالقاعدة الدستورية للانتخابات لا تصب، في ما يبدو، في سبيل اتخاذ إجراءات ملموسة من جانب الجهات الفاعلة ذات الصلة، مما يزيد من تأخير احتمالات إجراء انتخابات شاملة وحرة ونزيهة لإنهاء المرحلة الانتقالية، واستعادة شرعية المؤسسات”.

الحل السياسي يحتاج إلى سلطة شرعية معترف بها تنتج عن انتخابات ديمقراطية يشارك فيها الجميع دون إقصاء

آنذاك شدد باتيلي على ضرورة أن يأتي الحل من داخل ليبيا، لكن لا شيء من ذلك حصل، وكل الوعود التي أطلقها بتنظيم انتخابات قبل نهاية العام الجاري، انتهت إلى الفشل والفراغ، ليجد نفسه يسير على خطى سابقته الدبلوماسية الأميركية ستيفاني ويليامز التي عجزت عن تنظيم انتخابات في ديسمبر 2021، واضطرت لترك مكانها في طرابلس ومغادرة منصبها إلى غير رجعة، وللاكتفاء بكتابة مقالات صحفية تقصف من خلالها من تنعتهم بديناصورات السياسة في ليبيا.

في 27 فبراير الماضي، تحدث باتيلي عن موافقة كل الأطراف الإقليمية المتداخلة في الأزمة الليبية على إجراء الانتخابات نهاية العام الحالي، وطرح أمام مجلس الأمن مبادرة تنطلق من تشكيل لجنة توجيهية رفيعة المستوى تجمع كل أصحاب المصلحة، والمؤسسات، والشخصيات، والقادة القبليين، والأطراف ذات المصلحة، والنساء، والشباب، وتكون مهمتها الوصول إلى الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، من خلال تيسير اعتماد الإطار القانوني وخارطة الطريق المحددة وفق جدول زمني لعقد الانتخابات في 2023، إضافة إلى تعزيز التوافق على أمن الانتخابات واعتماد مدونة سلوك لكل المرشحين، وفق تقديره.

لكن المطلعين على تفاصيل المشهد الليبي كانوا يدركون أن مصير أي لجنة جديدة لن يكون أفضل من مصير اللجان السابقة وأبرزها لجنة الحوار السياسي التي بدأت في نوفمبر 2020 بزفّة عالمية ثم انتهت إلى الإهمال القاتل والوفاة غير المعلنة.

حاول باتيلي أن يضغط من أجل وضع خارطة طريق انتخابية قبل منتصف يونيو الماضي، واعتبر البعض أن الرجل قد يكون بصدد إعداد خطة جديدة من أبرز بنودها تهميش دور مجلس النواب في بنغازي ومجلس الدولة في طرابلس، والاتجاه نحو الدفع بالمجلس الرئاسي لإصدار مرسوم يتضمن قاعدة دستورية وقانونية للانتخابات تحظى بالدعم المباشر من المجتمع الدولي وبشرعية أممية تقطع الطريق أمام كل من يحاول قطع الطريق أمام تنفيذها.

اا

خلال الأشهر الماضية، اجتمعت اللجنة العسكرية المشتركة 5+5 في طرابلس وبنغازي وتونس وباريس، وتوصلت إلى جملة من التوافقات من بينها تشكيل قوة مشتركة لحماية الحدود الجنوبية والمشاركة في تأمين الانتخابات المنتظرة، ولكن لا شيء من ذلك قد تحقق. بحثت اللجنة ملف القوات الأجنبية وإجلاء المرتزقة، وزار باتيلي عواصم دول الجوار للتنسيق معها، وتحدث مع الأتراك والروس في نفس الموضوع، ولكن لا جديد عمليا طرأ على أرض الواقع.

كان المبعوث الأممي يدرك أن سلطات طرابلس ومن ورائها عواصم غربية مؤثرة متمسكة بطرد مسلحي فاغنر الروس المتعاونين مع قيادة الجيش في برقة وفزان، فيما تنادي سلطات بنغازي بضرورة البدء بطرد المرتزقة السوريين الذين جرى جلبهم من قبل النظام التركي وباتوا جزءا من المنظومة العسكرية والأمنية بالمنطقة الغربية.

في السادس من يونيو الماضي، وبعد أسبوعين من المشاورات بين وفدي مجلسي النواب والدولة بمنتجع أبوزنيقة المغربي، تم الإعلان عن اتفاق ملزم سيكون بمثابة القاعدة القانونية للانتخابات، وفي إحاطته أمام مجلس الأمن تحدث باتيلي عن الخلافات التي طفت على السطح، بخصوص أربع نقاط أساسية وهي شروط الترشح بالنسبة إلى المرشحين للانتخابات الرئاسية، والأحكام التي تنص على جولة ثانية إلزامية من الانتخابات الرئاسية حتى لو حصل المرشح على أكثر من 50 في المئة من الأصوات في الجولة الأولى، والأحكام التي تنص على عدم إجراء الانتخابات البرلمانية في حال فشلت الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، ثم الأحكام القاضية بتشكيل حكومة مؤقتة جديدة قبل إجراء الانتخابات.

محاولات باتيلي الحالية لن تجدي نفعا، ولن يكون لها تأثير إلا في الحفاظ على تهدئة الأوضاع الأمنية

وكان واضحا أن قوى دولية عدة تدخلت لقطع الطريق أمام التوافق النادر الذي حصل بين مجلسي النواب والدولة، وخاصة في العلاقة بشروط الترشح وبتشكيل حكومة جديدة انتقالية مصغرة تتولى إدارة المرحلة القادمة والإشراف على الانتخابات.

دفع الصراع القائم بين روسيا والناتو إلى مخاوف غربية غير مسبوقة من وصول أي طرف قريب من موسكو إلى السلطة في ليبيا، وقد أكدت السفيرة البريطانية عن رفض بلادها لترشح سيف الإسلام القذافي، واتجهت واشنطن لإقناع المشير خليفة حفتر بطرد الخبراء الروس وإعداد أحد أبنائه للترشح بدلا منه للمرحلة القادمة، وتم إعلام عبدالحميد الدبيبة بأنه باق في منصبه إلى حين الحسم في عدد من الملفات الدولية والإقليمية وخاصة تلك التي لها علاقة بالتجاذبات في الداخل الليبي

أدت الحرب في أوكرانيا والصراع الدموي في تشاد والانقلاب العسكري في النيجر والأوضاع في تشاد ومالي وبوركينا فاسو وغيرها من دول الساحل والصحراء، وتشكّل مواقف شعبية مناوئة للغرب في المنطقة مع تغلغل روسي واضح، إلى مزيد من الغموض حول الموقف من ليبيا ذات الامتدادات الشاسعة سواء على الضفة الجنوبية للمتوسط أو في العمق الأفريقي والتي لا يمكن فصل كل التطورات الحاصلة حولها عن الأحداث التي عصفت بها في العام 2011.

أدرك الفرقاء الداخليون حالة التذبذب الدولي وخاصة لدى الدول الغربية، ونجحوا في التعامل معه على عدة أسس من أبرزها:

  • أولا: استمرار الفاعلين الأساسيين في السلطات الحالية في شرق البلاد وغربها في مواقعهم، وخاصة في مجلسي النواب والدولة، وفي المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة، وعلى رأس التشكيلات المسلحة، وهو ما يستفيد منه أمراء الحرب وقادة الميليشيات وبارونات الفساد المرتبطون بفساد المؤسسات الحاكمة، وترتاح له القوى الإقليمية والدولية المؤثرة في الملف الليبي والتي تجد في الوضع الحالي ما يخدم مصالحها عبر إمكانية التدخل المباشر للتعديل والتوجيه وفق المسارات التي تخدم مصالحها.
  • ثانيا: تعامل سلطات شرق البلاد مع الوضع الحالي على أنه دائم، وبروز ملامح إمارة تحت حكم عائلي، وهو ما يمكن ملاحظته من خلال توزيع المناصب وتوجيه الولاءات وترتيب الأولويات وكذلك من خلال ملامح الوضع الاقتصادي والاستثماري وتشابك المصالح بما يخدم ذلك التوجه الذي يقابله مشهد مماثل في طرابلس عبر تشكيل تحالف بين السلطة القائمة ودوائر المال والسلاح والإعلام والنزعات الجهوية الانعزالية والخطاب الديني المتشدد الذي يمثله رئيس دار الإفتاء الصادق الغرياني.
  • ثالثا: استمرار المشاورات للتنسيق بين الرجل القوي في حكومة الوحدة ومجتمع المال والأعمال بالمنطقة الغربية إبراهيم الدبيبة مع صدام حفتر الذي بات يمثل الواجهة السياسية لسلطة والده والمرشح المحتمل لخلافته، وذلك عبر لقاءات دورية في عدد من العواصم والمدن التي باتت تشهد توسعا لاستثمارات الطرفين، بما يشير إلى وجود توافق حول المصالح الشخصية والفئوية لكل طرف منهما.

بدورها العلاقات بين مجلسي النواب والدولة وخاصة بين رئيسيهما عقيلة صالح وخالد المشري تتطور بمزيد من التفاهمات والتنازلات المتبادلة بينهما والتي وصلت خلال الأسابيع الأخيرة إلى مستوى غير مسبوق.

  • رابعا: التوصل إلى توافقات ضمنية بين سلطات غرب البلاد وشرقها لتقاسم الإيرادات النفطية، لاسيما أن كل طرف منهما يحصل على نصيبه كاملا، فيما يبقى عموم الشعب يواجه ظروفه المالية والاقتصادية الصعبة، وحال ظهور أي إشكال حول إنتاج وتصدير النفط تتحرك القوى الغربية لاحتوائه بالتهديدات المبطنة للأطراف المتسببة فيه.

عندما تحدث باتيلي عن تقاسم كعكة في ليبيا لم يجانب الصواب، وعندما تحدثت ويليامز عن النخبة الفاسدة وديناصورات السياسة والصراع على الغنيمة كانت على صواب، ولذلك فإن أي محاولة لتجاوز الوضع الحالي نحو توافقات إيجابية لإخراج البلاد من مأزقها، سيحتاج إلى قرار دولي حازم، وهو أمر غير وارد حاليا وفي المستقبل القريب بسبب التجاذبات الحاصلة بين الدول الغربية وموسكو والتي تؤثر بشكل واضح على الوضع الداخلي، كما أن الحل السياسي يحتاج إلى سلطة شرعية معترف بها من كل القوى الفاعلة في البلاد تنتج عن انتخابات ديمقراطية يشارك فيها الجميع دون إقصاء، وهو ما لا يتحقق إلا بالتوصل إلى حل قضية السلاح والميليشيات وإلى توحيد المؤسسة العسكرية والذي يبدو غير ممكن إلا بتحقيق مصالحة وطنية شاملة وبضمان مصالح مراكز النفوذ الحالي وفق دستور يتم التوافق عليه.

أما محاولات باتيلي الحالية فلن تجدي نفعا، ولن يكون لها تأثير إلا في الحفاظ على تهدئة الأوضاع الأمنية لتكريس حالة استمرار النخب الحالية في تقاسم الكعكة وتغلغل كل طرف منها في محيطه الفئوي والمناطقي والاجتماعي والمصالحي بما يضمن بقاء الوضع على حاله.

7