لماذا يكذب السياسيون في مذكراتهم؟

لا يمكن للسياسي إلا أن يكذب بسبب طبيعة السياسة، ولكن هذا الكذب يتضاعف ويتضخم ويتكاثر في المذكرات.
الأحد 2023/07/16
السياسيون مفتونون بالكذب

الفرضية تقول إن الهدف من تدوين السياسي لمذكراته هو حفظ الذاكرة ذات الطابع الجمعي من الذوبان والتشظي والاعتراف بالأخطاء وتقديم الاعتذار للجيل الحالي والأجيال اللاحقة والإرضاء النسبي لشغف المهتمين والقراء والباحثين عن الحقيقة النسبية والجزئية دائما وأبدا في ثنايا التاريخ، وذلك من خلال الاطلاع على تفاصيل لم يعاصروها.

لكن هذا على المستوى النظري، بينما عمليا يتوقف ذلك على جرأة وصراحة وطبيعة ودرجة أخلاق وضمير ونزاهة السياسي الذي يدون مذكراته. وكنتيجة، فإن المدماك الأول لكتابة السياسي للمذكرات المفيدة والمجدية هو إيمانه وتمتعه بثقافة التواضع والجرأة والاعتراف والاعتذار. وفي ظل غياب هذه الأسس لا جدوى من كتابة المذكرات التي ستكون غالبا مزيجاً من الأكاذيب التي ترقى إلى درجة الخيال اللاعلمي والثناء والمدح الذاتي والتبرير والطمس المتعمد للحقائق والأحداث واختلاق ما لم يكن وما لم يحدث في الأصل. وهذا ما تمور وتفور به مذكرات معظم السياسيين ورجالات الدولة.

يقول الفيلسوف الهولندي إيراسموس “إن عقل الإنسان معد كي يفتتن بالكذب أكثر بكثير من افتتانه بالحقيقة”. ويقول نيتشه “إن الكذبة شرط الحياة”، حتى وإن كان شرطا مقززاً. ومستوى هذا الافتتان بالكذب يصل إلى الأوج بالنسبة إلى السياسي ورجل الدولة. فالكذب بالنسبة إلى السياسي وسيلة للبقاء والولوج والتألق ولتبرئة الذات عند مواجهة الانتقادات والاتهامات ولخداع الآخرين وتسويق الأوهام وتبرير الآثام وفبركة الأحداث من نسج الخيال وكسب النقاط إلى أن يتحول الكذب بالنسبة إلى السياسي من وسيلة إلى غاية. لكن لكي لا نظلم السياسيين وحدهم، فقد كذب حتى كبار الفلاسفة والمفكرين الذين كنا موهومين ومخدوعين ومتأثرين بهم إلى أبعد الحدود.

◙ السياسي الذي لم ينجز شيئا لشعبه يستأهل التذكير أثناء مزاولته للعمل السياسي يلجأ إلى مضاعفة الكذب والتبرير المنظم لفشله وإخفاقاته المتكدسة في كتابة مذكراته ظنا منه أنه قد يفلح في تبرئة نفسه

وهذا ما يتناوله الفيلسوف الفرنسي فرانسوا نودلمان في كتابه “عبقرية الكذب أو هل كذب كبار الفلاسفة” الصادر سنة 2015 والذي يحلل فيه الكذب المتعمد من قبل كبار الفلاسفة. يركز نودلمان من خلال الأمثلة التي يوردها في متن الكتاب على التناقض بين أطروحات الفلاسفة النظرية التي تشي بالتعمق والتبحر والأخلاقية والرقي والإنسانية وبين سلوكياتهم التي جسدت عكس ما باحوا به في مؤلفاتهم وكذبوا به على المنبهرين بهم. يسرد لنا مثال جان جاك روسو الذي اشتهر بتمجيد الحقيقة كما رآها وبتسخيره مئات المقالات والأبحاث بحثا عن الحقيقة وخدمة لها وفق منظور روسو.

لكن نودلمان يؤكد أن روسو في مؤلفه “روسو يحاكم جان جاك” أو “حوارات” وقبله في “اعترافات” يدافع فيها بضراوة عن نفسه ضد الاتهامات الموجهة إليه كالسرقة والاحتيال والخلاعة والتجديف. لكن مدون “العقد الاجتماعي” لا يأتي على ذكر الخطيئة الكبرى التي اقترفها بحق أطفاله الخمسة عندما تخلى عنهم ووضعهم في أحد ملاجئ الأيتام. ويصر على وصف نفسه بالكائن الأخلاقي الذي تعرض لمؤامرة كونية شارك فيها كبار الفلاسفة من عصره.

ويقدم نودلمان أمثلة صادمة أخرى متعلقة بميشيل فوكو وجان بول سارتر وغيرهما، وبطبيعة الحال الآراء التي يوردها في الكتاب والتي ترقى أحيانا إلى مصاف الحقائق تكاد تكون مخفية تماما بالنسبة إلى أغلبية المعجبين بهؤلاء المفكرين.

أما بالنسبة إلى كذب السياسيين وخاصة في مذكراتهم فحدث ولا حرج. والسبب هو أن الكذب جزء من مهنة السياسي، وأغلب السياسيين يمارسون الكذب الممنهج عندما يمتهنون السياسة وهم في ربيع حياتهم، إذاً كيف سينتهي بهم المطاف وهم يدونون مذكراتهم في خريف العمر؟ بالتأكيد سيتضاعف الكذب والتلفيق والتضليل في المذكرات لأنه لا ضوابط ولا روادع أخلاقية لمعظم السياسيين بما أن المهماز هو الأنا والنرجسية المفرطة.

◙ بعض السياسيين يكذبون ويراوغون ويخادعون من أجل مصالح شعوبهم ودولهم، وهذا مبرر في عالم السياسة، مقابل البعض الآخر الذي يصر على الكذب والتضليل والافتراء
بعض السياسيين يكذبون ويراوغون ويخادعون من أجل مصالح شعوبهم ودولهم، وهذا مبرر في عالم السياسة، مقابل البعض الآخر الذي يصر على الكذب والتضليل والافتراء 

ذات مرة سأل مذيع قناة “بي.بي.سي” ستيفن ساكور رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير عندما استضافه في برنامجه الشهير Hard Talk: يقول خصومك إنك تكذب كثيراً، ما هو ردك؟ أجابه بلير قائلاً: هم محقون في ذلك لأن الكذب هو جزء من مهنة السياسي، لكن أعتقد أن معظم الكذب والخداع اللذين مارستهما كانا من أجل خدمة بلدي.

في كتابه المعنون “لماذا يكذب القادة والزعماء: حقيقة الكذب في السياسة الدولية” يُعرّف جون ميرشايمر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو ومؤلف العديد من الكتب
القيمة في حقل العلاقات الدولية، الكذب بقوله “هو عندما يدلي شخص ما، بقول أو تصريح، وهو يعرف أو يتوقع مسبقاً أنه زائف، وذلك على أمل أن يظن الآخرون أنه صحيح. فالأكذوبة هي عمل مصمم كي يخدع الجمهور. يمكن أن يتضمن الكذب صناعة وقائع يعرف المرء أنها زائفة، أو نفي وقائع أخرى يعرف أنها صحيحة. لكن الكذب ليس فقط حول وقائع محددة؛ يمكن أن يشتمل الكذب أيضا على ترتيب وقائع معينة بطريقة مخادعة لسرد قصص وهمية”.

ويكذب السياسي في مذكراته على الرغم من درايته التامة بأن قلة قليلة فقط من محبيه وأتباعه ومريديه ستصدق ما قام بتدوينه وأن الأغلبية ستميل إلى تكذيبه وعدم تصديقه. لذلك لا يتوانى معظم السياسيين في مذكراتهم عن تحويل الأخطاء المقصودة الفادحة إلى إنجازات والتطرف إلى اعتدال والارتزاق والعمالة إلى نزاهة ونضال، لأن ما يهم هذه الشاكلة هو إرضاء النزوع الذاتي وإقناع الأقلية المحسوبة والقريبة فقط، وليس مهماً التأريخ ورأي الأغلبية الحائرة.

في مذكرات اللواء محمد نجيب “كنت رئيسا لمصر”، يوضح فيها نجيب أنه كان من أشد أنصار الديمقراطية في مصر، إلا أن الرئيس جمال عبدالناصر كان العائق أمام تحقيق ذلك. لكن نجيب لا يتناول البتة الاتصالات السرية التي دارت بين تنظيم “الضباط الأحرار” من ناحية وبين الأميركان والإنجليز من ناحية ثانية، ويصر على وصف انقلاب 23 يوليو 1952 بالثورة.

كما أنه لا يوضح كيف انتسب إلى التنظيم العسكري وكيف أن ضابطا برتبته وأحد مؤسسي التنظيم يمكن أن يؤمن بالديمقراطية؟! ومن ثم يوضح أن ما تعرض له من تنكيل وإقالة وإقامة جبرية كان بسبب أفكاره وميوله الديمقراطية التي حوربت بشدة من قبل جمال عبدالناصر.

وعلى نفس المنوال دوّن رئيس إقليم كردستان العراق الأسبق ورئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني كتابه “للتاريخ” الذي كُتب في بعض الأجزاء وفق أسلوب المذكرات. خلال تناوله موضوع استفتاء استقلال الإقليم الذي جرى في 25 سبتمبر 2017، يوضح بارزاني أن 15 حزبا في الإقليم اتفقت في برلمان الإقليم على قانونية الاستفتاء وإجرائه في الموعد
المشار إليه. لكنه لا يشير إلى غياب أو تغييب حركة التغيير عن الاجتماع وإغلاق برلمان الإقليم الذي دام حوالي سنتين إثر منع رئيسه المنتخب يوسف محمد المنتمي إلى التغيير من دخول أربيل، وأن حوالي نصف أعضاء البرلمان كانوا غائبين أو مغيبين عن ذلك الاجتماع.

◙ الكذب بالنسبة إلى السياسي وسيلة للبقاء والولوج والتألق ولتبرئة الذات عند مواجهة الانتقادات والاتهامات ولخداع الآخرين وتسويق الأوهام وتبرير الآثام وفبركة الأحداث

 أيضا لا يأتي على ذكر أن تياراً قوياً داخل الاتحاد الوطني الكردستاني كان لا يؤيد إجراء الاستفتاء في ذلك الوقت، علما أن الكثير من التقارير قد أشارت أيضا إلى أن نيجيرفان بارزاني نفسه لم يكن من المتحمسين بخصوص توقيت الاستفتاء وأنه كان يميل إلى تأجيل الموعد. كذلك يلوم مسعود بارزاني في مذكراته السفيرين الإنجليزي والأميركي في بغداد على دورهما السلبي في الاستفتاء، لكنه لا يذكر بجلاء أن الولايات المتحدة وبريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي عارضت موعد الاستفتاء وليس المبدأ، وأن الدبلوماسية الكردستانية قد أخفقت في إقناع الغرب والشرق بقبول فكرة الاستفتاء وما قد يتمخض عنه من نتائج.

ويحول رئيس الإقليم الأسبق الهزيمة إلى انتصار ولا يرى في الاستفتاء سوى إنجاز بالمعنى المطلق على الرغم من الخسائر المتتالية التي تعرض لها الأكراد سواء في فقدان كركوك والمناطق المتنازع عليها أو في فرار عشرات الآلاف من الأكراد من كركوك وتعرض فيدرالية الإقليم ذاتها للخطر والزوال بسبب تكالب رجالات الإمام والسلطان في بغداد ضدها.

بقي أن أضيف أنه لا يمكن للسياسي إلا أن يكذب بسبب طبيعة السياسة وأن هذا الكذب يتضاعف ويتضخم ويتكاثر في المذكرات. لكن المسألة هنا تكمن في أن بعض السياسيين يكذبون ويراوغون ويخادعون من أجل مصالح شعوبهم ودولهم، وهذا مبرر في عالم السياسة، مقابل البعض الآخر الذي يصر على الكذب والتضليل والافتراء والتلفيق خلال مزاولته للسياسة أو في مذكراته من أجل المصالح الشخصية وجمع المال والاغتناء غير المشروع الذي قد يستلزم أحيانا كثيرة الارتهان بإرادة وأجندات الخصوم والأعداء.

السياسي الذي لم ينجز شيئا لشعبه يستأهل التذكير أثناء مزاولته للعمل السياسي يلجأ إلى مضاعفة الكذب والتبرير المنظم لفشله وإخفاقاته المتكدسة في كتابة مذكراته ظنا منه أنه قد يفلح في تبرئة نفسه وإقناع القلة القليلة من محبيه ومريديه الذين يتلقفون أي شيء منه دون المرور بمختبر العقل. وبالتالي، فإن السياسي هنا يضيف جريمة جديدة إلى قائمة جرائمه السابقة التي ارتكبها خلال ممارسته للسياسة وهي مجموعة الأكاذيب التي يختلقها ويفبركها ويدونها في مذكراته، بالإضافة إلى طمس الحقائق وتعتيمها تعتيما متعمدا.

9