حروب الدولة السودانية وحرب الخامس عشر من أبريل (2)

السودانيون لم يختاروا هذه الحرب، ولا أياً من الحروب التي شهدتها بلادنا عبر تاريخنا الحديث، ولكن الشعب السوداني دفع ثمنها غالياً.
السبت 2023/06/24
حرب لم يخترها السودانيون

لقد خلفت حرب الخرطوم خرابا كبيرا، ليس في الأرواح والممتلكات فحسب، وإنما في النفوس كذلك (الكراهية والانقسام). فقد أخرجت هذه الحرب كل المسكوت عنه وأوضحت تماماً من نحن كسودانيين. شخصياً، تعرفت على الشخصية السودانية كما هي في هذه الحرب. عصابة “تسعة طويلة” ليست فقط أولئك الذين ينهبون المارة والمنازل في أوقات السلم. سماسرة الحروب هم التسعة الأطول على الإطلاق.

أمام مصانع جياد، شاهدت المئات من فقراء المدن يعرضون البضائع المسروقة، مثلما شاهدت مئات آخرين يشترون هذه البضائع بنهم عجيب، الكل يدعي أنه بريء وضحية، والكل يدعي أنه بطل. ولكن الحقيقة غير ذلك. حتى المثقفين والأدباء والأكاديميين كشفت هذه الحرب عن عوراتهم. في الحقيقة لقد منحتنا هذه الحرب، رغم مأساتها، فرصة للتعرف على ذواتنا أكثر، وفرصة لبناء سودان على أسس صحيحة.

لقد عايشت تجربة الحرب هذه في مدينة الخرطوم شرق لمدة 54 يوماً، شاهدت خلالها كل مآسي وتجاوزات الحروب؛ دخول المنازل واستغلال سيارات المواطنين، ونهب البنوك والمصانع، والرعب في الطرقات ونقاط التفتيش. وجدت الذين يستغلون القوة والنفوذ لقهر المواطنين، وأولئك الذين يرسلون رسائل التطمين للسكان. تحدث معي من المعارف والأصدقاء من أثق فيهم بأن أفرادا من الدعم السريع استولوا على منازلهم أو سياراتهم. لقد رأينا جيراننا أشلاء بعد قصف منزلهم بسلاح طيران أرعن، ومقذوفات ثقيلة تنطلق من قواعد عسكرية لتستقر في جوف منزل آمن. لقد شاهدنا ما كان يحدثنا عنه الفارون من جحيم الحروب من مناطق السودان المنكوبة.

آخر المحاولات لإعادة إنتاج السودان القديم وقطع الطريق أمام بناء سودان على أسس جديدة، هو ما أقدم عليه تحالف القوات المسلحة، والحركة الإسلامية وحواضنهما الاجتماعية والرأسمالية والإقليمية، وهو إشعال الحرب

لقد أظهرت الحرب الغبن الطبقي المكبوت في البنايات تحت التشييد، ودخان المصانع ومساكن الصفيح. معظم الذين نهبوا المصانع والمحال التجارية هم عمال تلك الشركات والمصانع. نساء وأطفال وشباب خارج العمل وخارج النظام التعليمي وخارج نظام الدولة، وفئات أخرى لم يكن التنميط السائد يشملهم للقيام بمثل هذه الأمور.

الذي حدث في حرب أبريل وفي الخرطوم تحديداً كشفته تقنية الاتصالات التي ما عادت معها جريمة ترتكب تحت الظلام. ما جعلنا نتخيل تماماً ما جرى في أطراف السودان منذ سبعة عقود وهو قطعاً أكثر وحشية. كان ذلك ولا يزال يمثل حريق السافانا الذي قضى على كل شيء؛ سحق التعايش الاجتماعي الممتد لسنين طويلة نتيجة لضخ خطاب الكراهية والانقسام، وحريق الموارد بما فيها الطبيعية، والملايين من القتلى المدنيين، والملايين من النازحين واللاجئين، والآلاف من حالات الاغتصاب، والنهب والحرق، والتهجير القسري، والرق والسبي.

حدث ذلك لأكثر من سبعة عقود متواصلة، قبل أن يخلق الله في هذه الأرض “تسعة طويلة” أو الدعامة. من فعل ذلك هو الأب الشرعي للعنف، والإبادة، والتهجير، والاغتصابات، والتصفيات بحق المواطنين المدنيين والانقلابات العسكرية، ذلك ما اصلطح عليه بقوات الشعب المسلحة وهي بكل تأكيد ليست كذلك.

في مدينة مثل جوبا قام الجيش السوداني بطرد المواطنين من حي معروف وسط المدينة وأحاله إلى سكن عسكري أسماه حي المدرعات. أقام فيه طوال سنين الحرب، حول خلالها المدارس والمستشفيات بل حتى جامعة جوبا العريقة إلى ثكنة عسكرية لما يزيد عن عشرة أعوام. إن القاسم المشترك الوحيد بين كل هذه الحروب هو معاناة البشر وضيق فرص العيش معاً. وحرب اليوم رغم قساوتها، هي فرصة لإنهاء العذابات إلى الأبد.

آخر المحاولات لإعادة إنتاج السودان القديم وقطع الطريق أمام بناء سودان على أسس جديدة، هو ما أقدم عليه تحالف القوات المسلحة، والحركة الإسلامية وحواضنهما الاجتماعية والرأسمالية والإقليمية، وهو إشعال الحرب.

لخص ذلك المشروع اللواء أنس عمر القيادي الإسلامي المعروف قبل اعتقاله عندما وعد بالانتقام، مثلما لخص ذلك الفريق فتح الرحمن محيي الدين قائد سلاح الطيران السابق في مقابلة تلفزيونية شهيرة أثناء الحرب حين قال “لا يمكن أن تنتهي هذه الحرب ونعود مرة أخرى إلى هؤلاء الشرذمة من قوى الحرية والتغيير وقوات الدعم السريع حتى لو أدى ذلك إلى حرق السودان كله”. تلك تجربة لم تنجح ولن تنجح بل وفرت فرصا للتغيير الجذري أكثر من أي وقت مضى.

لم تفلح كل محاولات السلطة المركزية ومؤسساتها الراسخة مثل الجيش في ترويض قوات الدعم السريع مثلما فعلت من قبل مع قوى أخرى. إن إعلان الجنرال محمد حمدان دقلو “حميدتي” واعترافه بخطأ انقلاب 25 أكتوبر واعتذاره عنه وعن عنف الدولة تجاه المجتمعات منذ الاستقلال لم يقطع الطريق أمام الجيش وحلفائه فحسب، بل قطع الطريق أمام أي محاولة أخرى لإعادة إنتاج دكتاتورية جديدة. بذات القدر ليس بمقدور القوى التي تخلقت خارج مؤسسات الدولة التقليدية، مثل الدعم السريع، أن تستبدل استبداداً باستبداد آخر، ليس لأن قائدها أكد ذلك مراراً، بل لأن قوى الثورة مضافاً إليها حواضن ومؤسسات السودان القديم لن تسمح بذلك.

يجب استثمار هذا الموقف المتصدي لقوى الردة والفلول بالدفع تجاه بناء جمهورية جديدة في بلاد السودان. فالحروب مثلما خلفت آثاراً كارثية على الشعوب، هي كذلك مثلت في الكثير من تجارب المجتمعات نقطة تحول أساسية في التطور والتنمية والاستقرار السياسي. تجربة رواندا الجديدة خير شاهد على ذلك. إن الرفض الحقيقي للحرب يكمن في اجتراح أجوبة حقيقية لمعالجة جذور النزاعات المسلحة وعدم الاستقرار السياسي.

يواجه السودانيون اليوم سؤال البقاء، وهو سؤال بسيط وصعب في آن واحد: هل نحن مستعدون لبناء جمهورية جديدة بديلة لتلك التي ورثناها من الاستعمار؟ جمهورية قادرة على التعبير عن الجميع، نضع فيها حداً للعنف السياسي والاجتماعي وتقوم فيها الحقوق على أسس متينة من العدالة والمساواة، نحقق فيها العدالة، التي تشفي وتبرئ الجراح. فالحروب مهما طال أمدها وتكاثرت نتائجها الكارثية ستنتهي حتماً. ولكن إلى أي اتجاه وبأي ثمن؟

ستنتهي هذه الحرب بواحد من سيناريوين: إما انتصار طرف وإعلان خريطة طريق تبين كيفية مشاركته جميع السودانيين في عملية حوار جاد حول قضايا تأسيسية جديدة، أو اتفاق الطرفين على وقف إطلاق نار شامل ودائم مشروط بالاتفاق على أجندة الحوار التي تفضي إلى بناء الجمهورية الثانية.

الحرب لم تنته

إذا ما قدر لهذه البلاد أن تصل إلى ذلك، فإن القضايا التي يجب أن يشملها الحل السياسي الشامل هي:

- إعادة هيكلة وبناء جيش واحد قومي ومهني لا يتدخل في السياسة، متفق على مهامه وعقيدته القتالية بنصوص بينة في الدستور.

- إقامة نظام فدرالي غير تماثلي تتفاوت فيه السلطات التي تتمتع بها الوحدات المكونة للاتحاد الفدرالي، وتعزز فيه سلطات فعلية للمستويات المحلية، ثم بناء مؤسسات أفقية ورأسية تعمل على تقسيم الموارد والثروات والإيرادات وتخصيصها وفق معايير التعداد السكاني ومعايير أخرى وموضوعية.

- إعادة بناء مؤسسات الدولة القومية المهنية ومعالجة الاختلالات فيها وإزالة كافة أشكال التمكين الحزبي أو الجهوي الاجتماعي في داخلها.

- قضية الفصل بين الدولة والانتماءات الهوياتية الضيقة، الدينية، الثقافية، العرقية ومعالجة قضايا اللغات السودانية.

- العدالة الانتقالية: هذه الحرب وحروب السودان المختلفة خلفت أوضاعا ومظالم وتجاوزات لا يمكن معالجتها إلا بتبني مشروع وطني قومي للعدالة الانتقالية يرد المظالم ويشفي الجراح ويفتح فضاء وآفاقا جديدة للمساكنة بين شعوب السودان المختلفة.

- النظام الديمقراطي الذي يربط أي شرعية سياسية بالشرعية الانتخابية وفق نظام متفق عليه يحدد فصل السلطات بوضوح، ويفرض نظاما انتخابيا عادلا يقوم على تعداد سكاني شامل وشفاف.

- قضية العنصرية وخطابات الكراهية: السودان بلد متنوع، بل شديد التنوع، لا بد من الاتفاق على قوانين صارمة وأسس وضوابط تشكل قواعد حاكمة وملزمة في كل مؤسسات الدولة لاسيما التعليم، الخدمة المدنية العامة، الاتصالات والإعلام.

- مؤسسات الانتقال وكيفية المشاركة فيها أثناء الفترة الانتقالية.

- ضرورة إشراك أكبر قاعدة سياسية واجتماعية ممكنة من الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني وأصحاب المصلحة والمرأة من كافة مناطق السودان في جميع مراحل عمليات الحل السياسي الشامل.

وأخيراً، في حالة السيناريو الثاني، فإن المجهود الكبير الذي تقوم به المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة في جدة من جهة، والرباعية من جهة أخرى، يستوجب أن يتكامل مع الدور المهم للايغاد والاتحاد الأفريقي لإدارة مبادرة تحظى بالتأييد الإقليمي والدولي.

ختاماً، لم يختر السودانيون هذه الحرب، ولا أياً من الحروب التي شهدتها بلادنا عبر تاريخنا الحديث، ولكن الشعب السوداني دفع ثمنها غالياً. إن الوقوف الفعلي ضد هذه الحرب، يقتضي المضي قدماً في مشروع وخارطة طريق وطنية تجيب على سؤال: لماذا الحروب ظاهرة ممتدة ومتكررة في بلادنا؟ وكيف يمكننا تحويل مأساتها إلى فرصة لإيجاد سودان السلام والعدالة والحرية الذي يسع الجميع؟ هذا هو المعنى الحقيقي لموقف “لا للحرب”.

7