بين الثورة والسكين جنجويد! (2)

فكرة الحفاظ على الدولة ومؤسساتها غير مفهومة وما المصلحة في الحفاظ على دولة لم نر منها سوى البندقية والإقصاء وعدم الاعتراف.
السبت 2023/06/10
هالة من القداسة غير المبررة تحيط بالجيش السوداني

الحرب تدور في كل مكان وتلفزيون السودان غارق في الأغاني والأغاني المتبوعة بضحكات المرحوم السر قدور له الرحمة وكـأن شيئا لم يكن، سجالات الصفوة في المنابر تتهرّب من مواجهة الأزمة وحتى مشاركات مثقفي تلك المناطق في المنابر المتاحة تُقمع ولا تريد الصفوة سماع ما يعكر تباريها في استعراض قدراتها الفكرية وتنظيراتها التي لا علاقة لها بحريق القرى أو أرقام الضحايا التي تنشر يوميا في صفحات الميديا. إذا تحدث القادمون من المناطق البعيدة عن السودان كدولة أو عن مفاهيم قومية سريعا يتم تحنيطهم في الجغرافيا أو القبيلة لأن من يتحدث عن الشؤون القومية لابد أن يكون من جغرافيا محددة أو ما جاور ذلك من حلال.

تبعنا الصفوة سنين عددا وصدقنا شعارات الثورة وبناء وطن وقرأنا الكثير من التنظير من يمين ويسار وحتى أحاديث محمد جلال هاشم الذي ينظّر ويدعو إلى تحطيم جهاز الدولة الذي خلفه الاستعمار وبناء سودان جديد، صدقنا كل ذلك ولكن اتضح لي أن كل تلك الترهات الفكرية مجرد قشرة يبتز بها المثقفون بعضهم بعضا في إطار القدرات الفكرية والتنظيرية لتحقيق وضعية المثقف العضوي وغيرها من الأوصاف التي لا علاقة للواقع بها. الآن لمّا وصلت الحرب إلى الخرطوم انحاز حتى محمد جلال هاشم وآخرون كثر إلى آلة الدولة الاستعمارية التي كان يسعى لتحطيمها محمد جلال هاشم، لكنه يريد فعل ذلك بنفسه وبالكلام  فقط في المنابر طبعا، فهو لا يملك ولا "مُخباطا" لتحطيم ذلك الجهاز الاستعماري، و"المُخباط" هو ما يحمله الرّاعي ليهش به غنمه لمن لا يعرفون. نقول لمحمد جلال تعال الآن نظّر لمرحلة ما بعد تحطيم الدولة تعال وأرنا كيف نبني دولة جديدة بدلا من الهروب للاحتماء بسلاح الدولة الاستعمارية ذاتها وأنت من حرضت على طرد الجنجويد ونزع الغطاء السياسي عنهم وإعادتهم إلى حواضنهم الاجتماعية ونفذ البرهان وعلي كرتي توصياتك بالحرف.

◙ هذا الجيش بغض النظر عن سيطرة الإخوان المسلمين عليه في الثلاثين سنة الماضية فقد ظل هو العصا الغليظة لإخضاع كل من يعارض الدولة القائمة

هذا الجيش بغض النظر عن سيطرة الإخوان المسلمين عليه في الثلاثين سنة الماضية فقد ظل هو العصا الغليظة لإخضاع كل من يعارض الدولة القائمة ويحمي مصالح فئات ظلت تتداول السلطة عسكريا وديمقراطيا، وتستخدمه لحسم من يعارض أو يحتج أو يتطلع إلى أن يكون جزءا من إدارة الدولة. هذا الجيش لم يكن يمثل كل السودانيين وارتكب كل ما لا يخطر على بال في الجنوب وفي جبال النوبة وفي النيل الأزرق وفي الشرق وحتى في الخرطوم وأد كل الديمقراطيات ولكن يظل هو الجيش حامي الحمى (جيشنا جيش القوة، دخل الجبال جوه وحارب يوسف كوة)، وضباط وجنود الجيش هم أبطال يقاتلون في جبال النوبة ويحرقون ويحسمون أي تطلعات للنوبة أو غيرهم، فذلك مشروع ومبرر فالجيش لا يُنتقد فهو العجل المقدس الذي لا يمكن السماح بتغيير تركيبته الموروثة. والحديث عن الجيش ليس من أغراض هذه الكتابة لكن الصمت على تلك الجرائم والهروب من مواجهة الأسئلة الصعبة قادا إلى المأساة التي تعيشها البلاد اليوم.

ألاحظ وقوف جيلنا جيل التسعينات بالجامعات السودانية مع الجيش عدا قلة قليلة ترفع شعار "لا للحرب" وهو شعار مقبول وكلنا نردده "لا للحرب"، لكن هل يوقف الشعار الحروب دون مناقشة أسبابها؟ هل يوقف الشعار الحرب الراهنة أم هنالك خطوات لا بد من اتخاذها؟ جيلنا نحن مع الحرب!

نحن دخلنا الجامعات في التسعينات وانتمينا إلى التنظيمات السياسية المختلفة وجميعها كانت منضوية تحت رايات التجمع الوطني الديمقراطي، وناضلنا في أصعب الظروف لمواجهة عنف الجبهة الإسلامية وكان هدفنا استعادة الديمقراطية والتأسيس لوطن لكل السودانيين، وفي سبيل تحقيق ذلك رفع التجمع شعار الثورة الشعبية المحمية بالسلاح وأقر في مواثيقه استخدام السلاح لإسقاط حكم الجبهة الإسلامية، وفتحت جميع الأحزاب يمينها ويسارها معسكرات للقتال في إريتريا وكانت مهامنا تعبئة الشارع وفي يفاعتنا تلك كنا مصدقين لما يقال لنا من كلام، إذا خرجت طلقة من الجبهة الإسلامية ستقابلها طلقة من التجمع وأن الحرب ستنتهي في الخرطوم ويتم اقتلاع النظام اقتلاعا، صدقنا تلك الشعارات وخرجنا في الشوارع في سبتمبر 95 و96 وهتفنا وكلنا حماس أن هنالك قوة تحمي ظهرنا، ودفعنا الثمن عنفا واعتقالات وتعذيبا.

تخرّج أصدقاؤنا من الجامعات وسافروا إلى الشرق ملتحقين بالجبهة وكانوا أبطالا في نظرنا وتخرّجنا بعدهم وسافرنا للالتحاق بالتجمع لنجد أن الغالبية كانوا يجهزون حقائبهم للسفر إلى المنافي الجديدة التي فتحت في القاهرة وغيرها. هنا أذكر أنني ذهبت إلى مكتب الصديق عادل (رُز) مدير مكتب الأستاذ فاروق أبوعيسى عليه الرحمة عندما كان نقيبا للمحامين العرب، وصدفة التقيت الأستاذ وتجاذب معي الحديث في صباح باكر وتعرّف علي بالطريقة السودانية العادية: أنت منو ومن وين ودرست شنو… إلخ، وبعد أن عرف خلفيتي ومن أين أتيت قلت له: أريد الالتحاق بالجبهة الشرقية للقتال، قال لي بأبوية ظاهرة: أنت شاب من البدو ودرست ودخلت السياسة والمتعلمين منكم عددهم قليل، وأرى أن عليك أن تهاجر وتتعلم لأن مجتمعك يحتاجك متعلما وليس مقاتلا لتساهم في تنمية مجتمعك والسودان.

تلك الوصية حافظت عليها، ورغم خلفيتي كقانوني إلا أنني في كندا اخترت دراسة فض النزاعات والتنمية الدولية، رغم علمي أن ذلك التخصص ليس مطلوبا في سوق العمل الكندي، بل لأن فكرة العودة إلى السودان لم تفارقني يوما. إن أصدقاءنا الذين يقفون ضد الحرب اليوم لم يعملوا ضدها في ذلك الوقت، بل تبنوا شعاراتها والسؤال من كانت ستقاتل قوات التجميع الوطني الديمقراطي؟ هل هنالك قوة أخرى غير الجيش السوداني؟ وهل لم تشتبك قوات التجمع مع الجيش في همشكوريب وكسلا والحدود؟ لماذا صار اليوم الجيش خطا أحمر؟ وهل الذين يقاتلهم الجيش ويريد سحقهم جنجويد وقتلهم حلال؟

الأمر يحتاج إلى مصداقية مع النفس، إذا كان الناس يرفضون الحرب فيجب مناقشة أسباب الحرب في السودان، وليست الحرب التي تدور اليوم في الخرطوم هي بأول الحروب ولا تنفصل أسبابها عن بقية الحروب التي دارت في البلاد، فإذا أردنا جعلها آخر الحروب وأظن أن ذلك ممكن، علينا التحلي بالشجاعة والصدق فالاستهبال السياسي أورد البلاد الهلاك ودفع شعبنا ثمن ذلك في كل مكان بما في ذلك الخرطوم اليوم.

الكثير من الناس يتحدثون عن ضرورة الحفاظ على الدولة، ما الذي تبقى من الدولة القديمة ليتم الحفاظ عليه؟ وما الذي يجعل الناس يعملون على الحفاظ على دولة لا تمثل مصالح كل السودانيين؟ مقولة الحفاظ على الدولة يرددها اليسار واليمين إذا كان فعلا لدينا يمين ويسار في هذه البلاد، لأن ما أراه من كل هذه المسميات يمين ويسار وغيرهما هو من جملة الأوهام التي يتم تصديرها لأمثالنا.

◙ ألاحظ وقوف جيلنا جيل التسعينات بالجامعات السودانية مع الجيش عدا قلة قليلة ترفع شعار "لا للحرب" وهو شعار مقبول وكلنا نردده "لا للحرب"

فكرة الحفاظ على الدولة ومؤسساتها غير مفهومة وما المصلحة في الحفاظ على دولة لم نر منها سوى البندقية والإقصاء وعدم الاعتراف، دولة ضحاياها بالملايين، دولة أحرقت الأطراف جميعها من أجل كراسي سلطة لا قيمة لها، دولة صفوتها ليست على استعداد لأن تعرف القضايا التي تهم الملايين من الذين يعيشون في حواف الصحراء أو في معسكرات النزوح أو في القرى النائية.

صفوة مشغولة بصراعات لا رابط بينها وبين القضايا الوطنية الحقيقية، وقد صارت الطريقة الوحيدة للحفاظ على الدولة المعنية هي القتل والسحق، وتلك كلفة عالية جدا قادت إلى ما يحدث اليوم. الورطة كبيرة لأن الأمور لن تعود إلى ما كانت عليه، والضرورة تستدعي صناعة مستقبل بدلا من الاحتماء تحت لافتات الجيش و"الكيزان" وحالة التوهان الظاهرة حتى من الذين حشوا رؤوسنا بفكر الثورة والحل الجذري وغيرهما، عليهم الآن أن يساهموا في بناء دولة جديدة خالية من الحروب، ولكي يتحقق ذلك نحتاج إلى نقد حقيقي لموروث دولة ما بعد الاستقلال وما جرّته على بلادنا من مصائب أو يصمتوا وينحازوا لخيار (عمسيب) بتاع دولة البحر والنهر، وأخشى أن ذلك أيضا غير ممكن لأن وحدة السودان أمر لا لعب فيه وأن شعب الشمال والشرق الذي يتحدث عمسيب باسمه يرغب في العيش بسلام مع الآخرين، فقد تضرر أهل الشمال والوسط من الدولة ذاتها الموصوفة بأنها دولة المركز أو الجلابة، فسكان الشمال الذي رأيته بعيني هم أكثر حاجة من غيرهم إلى التنمية والخدمات والسلام مع بقية شعوب السودان، بينما النخبة التي تحكم وتنهب وتحمّلهم وزر أفعالها جلبت لهم المصائب ولكل البلاد، وعلى السودانيين أن يجلسوا جميعا للاتفاق على دولة تمثل مصالح الجميع، فذلك هو الحل الوحيد والطريق لتحقيق شعار "لا للحرب".

6