مرارات السلام بين مصر وإسرائيل

أبدت جهات غربية في القاهرة قلقها من حالة تأييد شعبية واسعة عقب قيام جندي مصري بقتل أربعة من الجنود الإسرائيليين قبل أيام، وتأكدت أن اتفاقية السلام التي وقعت منذ نحو خمسة وأربعين عاما بين مصر وإسرائيل أخفقت في تذويب الهوة من الناحية غير الرسمية، وهو ما أحدث ذعرا في بعض الأوساط الإسرائيلية التي اعتقدت أن الهجوم بالسلام يمكن أن يطوي الصفحات القاتمة مع الدول العربية.
تصرفت مصر الرسمية مع الحادث بمسؤولية تتناسب مع الضوابط التي وضعتها اتفاقية السلام والتفاهمات الأمنية مع إسرائيل حول آليات السيطرة على الحدود المشتركة، وبدت حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية حريصة على استمرار التعاون الأمني، ومرتاحة لاستكمال التحقيقات المشتركة مع القاهرة.
جاءت المشكلة من الأسئلة الغزيرة التي طرحها الإعلام الإسرائيلي حول الظروف التي وقع فيها الحادث وتداعياته ودلالات الغبطة التي سادت فئة كبيرة في الشارع المصري تعاملت مع الجندي محمد صلاح كبطل وجه ضربة قاسية لغطرسة إسرائيل.
◙ القاهرة تريد أن تبعث رسالة مفادها أن تعاونها الواسع مع تل أبيب ليس “شيكا على بياض” وأن الرؤية الإستراتيجية تختزل جانبا كبيرا من الرفض لممارساتها في الأراضي الفلسطينية
تناثرت الإجابات بين الدقة والسطحية، والعمق والفجاجة، لكنها في المجمل أكدت أن جراح الحرب لم يتكفل السلام بمداواتها، وأن هناك مرارات لم يتم تخطيها، وأن توقيع معاهدات واتفاقيات مع أي دولة عربية ليس دليلا على اختراق إسرائيلي بعيد.
فجّر حادث واحد به قدر كبير من العفوية الكثير من القضايا المسكوت عنها في إسرائيل ومصر، فالأولى اعتقدت رسميا أنها وصلت إلى مرحلة لم تعد فيها القاهرة مصدرا للتوتر على صعيدي الحرب والسلام، واطمأنت إلى أن التفاهمات المستمرة كفيلة بوأد أي فتنة يمكن أن تنشب بينهما، بينما شعبيا لا تثق شريحة كبيرة من الإسرائيليين في العرب عموما، سواء من جرى توقيع معاهدات سلام معهم أم لا.
أما الثانية (مصر) التي تبادلها المنهج نفسه رسميا وشعبيا أيضا، فنقطة الخطورة أن الإجراءات التي اتخذتها الدولة لتمرير عملية دفن جثمان الجندي محمد صلاح في صمت لم تحل دون حدوث ضجيج حوله والاحتفاء به من قبل قطاعات عديدة.
أوحت هذه المسألة أن الأجيال الجديدة التي لم تشهد حروبا عسكرية مع إسرائيل تحتفظ بنظرة سلبية عنها، فالهدوء الحاصل مع مصر أخفق في محوها، وفشلت كل أنواع الدعاية التي تبثها إسرائيل عبر وسائل التواصل الاجتماعي وتقف خلفها أجهزة مخابراتية في تثبيت فكرة أنها دولة جارة تريد السلام مع بلدهم.
جاءت مخاوف إسرائيل من رحم محددات رئيسية لا تستطيع الحديث عنها مباشرة أو بوضوح بما يساعد في رسم معالمها أمام الرأي العام، إذ يمكن أن تفجر قضايا حرجة لها ولمصر، وتحاول استيعاب دروسها وإيجاد وسائل مناسبة للتعامل معها.
من أبرز هذه المحددات أن الدولة المصرية مرتاحة لحالة الفوران التي ظهرت ضد إسرائيل، وعلى الرغم من عدم تركيز وسائل الإعلام المحلية على الحادث والالتزام بالرواية الرسمية التي قالت إن الجندي كان يطارد مهربي مخدرات، إلا أن بعض الحسابات القريبة من الحكومة مالت للإشادة بعملية قتل الجندي المصري لإسرائيليين.
◙ الأجهزة الإسرائيلية تعيد تقييم ما حدث على الحدود مع مصر، والذي لن يغير في المعطيات العسكرية والخطوط المرسومة سلفا، لكنه سيجعل الرأي العام داخل إسرائيل مستنفرا
يفسر ذلك بأن القيادة المصرية الحالية تعيد تكرار النموذج الذي ساد أيام حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك وإتقان اللعب على عملية الخطوط المتوازية، حيث التزم مبارك بضوابط السلام وترك الحرية للأحزاب والنقابات والمجتمع المدني للتعبير عن رفضهم للممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين وسمح باحتجاجات ومظاهرات في الشوارع والجامعات ضد الكثير من انتهاكاتها بحق بعض الدول العربية.
ومع أن الفضاء العام في مصر لا يسمح في الوقت الراهن بحرية الحركة أمام هذه الجهات، غير أن السياق العام الذي بدا محتفيا بالعملية لم يكن مزعجا للحكومة المصرية، على العكس حاولت بعض أجهزتها أن تستثمره في تخفيف حدة الضغوط الواقعة عليها، الاقتصادية والسياسية، وإبطال مفعول اتهامها من قبل البعض بأنها طورت علاقاتها الأمنية مع إسرائيل بشكل كبل قدرتها على الحركة الإقليمية.
أرادت القاهرة أن تبعث برسالة من هذه النافذة، مفادها أن تعاونها الواسع مع تل أبيب ليس “شيكا على بياض”، وأن الرؤية الإستراتيجية تختزل جانبا كبيرا من الرفض لممارساتها في الأراضي الفلسطينية وامتعاضا من هجومها بالتطبيع على دول عربية.
يعني ذلك أنه مهما تعددت الليونة السياسية وتنوعت أوجه التعاون سوف تبقى العدو الأول للدولة المصرية، وهو ما حواه حادث الجندي على الحدود، وما يحمله العقل الرسمي والشعبي من صورة نمطية قاتمة عن إسرائيل، فلم تتمكن السنوات التي مضت منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد من التغلب عليها ومحوها من الذاكرة العامة.
تدرك دوائر إسرائيلية هذه المعطيات وتحاول تجاهل الحديث عنها علنا، لأنها لا تريد زيادة عدد الخصوم أو تصوير السلام مع العرب كخيار خاطئ، لكن مع وجود حكومة يمينية متطرفة الآن بدأت الكثير من التساؤلات شبه المحرمة تتوالى، والتي استدعاها جندي مصري في عملية اعتبرت بمثابة إخفاق عسكري كامل لجيشها على إحدى الجبهات الهادئة، فما بالنا لو كانت هذه الجبهة ساخنة؟
◙ تصرفت مصر الرسمية مع الحادث بمسؤولية تتناسب مع الضوابط التي وضعتها اتفاقية السلام والتفاهمات الأمنية مع إسرائيل حول آليات السيطرة على الحدود المشتركة
تعيد الأجهزة الإسرائيلية تقييم ما حدث على الحدود مع مصر، والذي لن يغير في المعطيات العسكرية والخطوط المرسومة سلفا، لكنه سيجعل الرأي العام داخل إسرائيل مستنفرا أو غير واثق في الخطوات التي تقوم بها تل أبيب مع القاهرة، فما وصله من رسائل متعددة من المصريين مع هذا الحادث يصعب تجاهله مستقبلا.
قد تكون هناك إجراءات عسكرية وتحركات لوجستية وتفاهمات لمنع تكرار الحادث من قبل الطرفين، إلا أن الصعوبة سوف تبقى في العجز نحو عدم القدرة على التخلص من ميراث كبير من المرارات العربية، والتي عندما تغذيها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بتصرفات حمقاء يتم تقديمها على أنها أمر عادي، بينما إذا ظهرت على الساحة المصرية مثلا تبدو أمرا مزعجا.
كل طرف يغازل الآخر بالسلام وهو يعلم أنه مجرد اتفاقية تم توقيعها كنوع من الهدنة الطويلة فرضتها اعتبارات إستراتيجية متباينة، ويتم الالتزام بها لحاجة مصر وإسرائيل إلى تجنب الحرب بينهما، وحاجة قوى دولية إلى تقويض الصراعات في المنطقة.
إذا كانت المحصلة الرسمية مشجعة، فإنها شعبيا لم تنضج الظروف التي تجعلها كذلك، وربما تحتاج عملية النضج على الجانبين العربي والإسرائيلي إلى عقود، لأن تراكمات الحروب لم تترك مجالا لإمكانية تجاوزها، خاصة أن الانتهاكات التي تقوم بها قوات الاحتلال لا تتوقف، حتى لو رسمت صورة أخرى موازية تتعلق بالتطبيع تحت مسميات مختلفة، فإذا لم يكن هناك سلام يقوم على نوع من العدل والحق إزاء القضية الفلسطينية سوف تظل مرارات المصريين وغيرهم من العرب مستمرة نحو إسرائيل.