الحرب في أوكرانيا بين المنظور الفلسطيني والمقاربة الأوروبية

يمكن رؤية النزاع الجاري حاليا في أوكرانيا من خلال منظورين مختلفين أولهما رؤية هذا النزاع من منظور فلسطيني، وثانيهما اعتبار أن التحدي الأهم على المسرح الأوروبي يتمثل في إقامة نظام إقليمي قادر على ضمان أمن جميع الأطراف وتوفير كل الضمانات الدولية لها، وهي نفس المبادئ التي بنيت عليها الخطة العربية للسلام في الشرق الأوسط.
في كلتا الحالتين، كان التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة وفي المحافل الدولية في تناغم تام، حيث ارتكز بالأساس على احترام القانون والتأكيد على مبدأ عدم الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة. ومع ذلك، يبقى الفرق شاسعا بين الاعتراف بالحقوق والجهد المبذول لفرض احترامها، وبين معاينة انتهاكات القانون والعمل على تحديد المسؤوليات والمساءلة المرتبطة بذلك.
ويبرز النزاع في أوكرانيا تناقضا في المواقف. إذ يعتبر القتال في أوكرانيا دفاعا عن الشرف بحيث يتم تزويد هذا البلد بالسلاح والعتاد بالشكل المناسب. في حين يبدو أن ذلك الحق تمت مصادرته للشعب الفلسطيني رغم أن حقوقه ثابتة في ذلك ومعترف بها دوليا كونه يرزح تحت الاحتلال.
◙ الصراع الأوكراني ينهي عصر الانتقال ما بعد الاتحاد السوفييتي. فشل هذا الانتقال، الذي استمر من يناير 1992 إلى فبراير 2022، في تشكيل توازن إستراتيجي مقبول
ويضفي الدعم النشط لأوكرانيا منذ اندلاع الصراع الشرعية على حق النضال ضد الاحتلال ويذكي روح المقاومة. أما مقاومة الاحتلال في فلسطين فتوصف بأنها إرهاب. لماذا؟ يستمد التزام حلفاء أوكرانيا موقفهم من اعتبارات ذاتية مبنية على العلاقات بين دول أوروبا عوضا عن القانون. وعندما يقول جان إيف لودريان “لا يمكن لأوكرانيا أن تتفاوض بمسدس موجه إلى صدغها”، ندرك أن حكم شركائنا الأوروبيين على مصير فلسطين يتم من منظور آخر.
في ظل هذه اللعبة، تتواصل تصفية قضية الشعب الفلسطيني ببرودة دم رغم مسوغات القانون والشراكة الأورومتوسطية. ونعتقد أن هذا التمشي من شأنه أن يقوض مبادئ السياسة المتوسطية ويشكك في مدى التزام القوى الغربية بالقيم التي تدعي أنها كونية. ويصبح الموقف تعبيرا عن سياسات تمييزية.
تنتمي الولايات المتحدة إلى فئة أخرى، فهي تدعم مبدأ عدم الاستيلاء على الأراضي بالقوة بخصوص أوكرانيا، بينما تؤيد المراسيم الصادرة في عامي 2017 و2019 التي ضمت الأراضي الفلسطينية المحتلة في القدس الشرقية والجولان ووضعتها تحت نفوذ سلطة الاحتلال.على عكس حلفائها الأوروبيين، تتبنى حكومة الولايات المتحدة السياسة المبنية على القوة. بمرور الوقت، يثير تراكم انتهاكات القانون قضية المسؤولية الجنائية. وتنكر الولايات المتحدة، على الرغم من مساهمتها في صياغة نظام روما الأساسي، حق الفلسطينيين في الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية أو اللجوء إليها.
في المقابل دعت نائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس خلال مؤتمر ميونخ للأمن (17 – 19 فبراير 2023) إلى تتبع جرائم الحرب في أوكرانيا قضائيا. وأصدر المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية في الشهر التالي (17 مارس) مذكرة توقيف للرئيس الروسي فلاديمير بوتين. لكنه من الغريب أن التحقيق الرسمي الذي قررته المحكمة الجنائية الدولية قبل عامين، في 5 فبراير 2021، بخصوص الأراضي الفلسطينية، لا يزال مجمدا. ويعدّ الموقف السياسي تمييزيا هنا أيضا.
يمثل الفرق في المواقف بين أوكرانيا مع فلسطين شرخا يتجاوز مجرد التمييز. ومما لا شك فيه أن مفهوم الإرهاب ومبدأ الاحترام المتساوي للشعوب يحتاجان إلى توضيح.
يطرح الصراع الأوكراني مشكلة الأمن الإقليمي. إن الأمن الأوروبي المشترك، بما في ذلك شرق القارة وغربها، هو أحد ركائز النظام العالمي. إن مؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا، ووثيقة هلسنكي الختامية، وتدابير بناء الثقة اللاحقة، والمعاهدات الإستراتيجية المبرمة بين الطرفين قبل ديسمبر 1991 (تاريخ تفكك اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية) وبعده، كانت نتيجة مفاوضات وتعاهدات متبادلة. ونحن مدينون لهذه العملية بالتطورات الحاسمة على درب ترسيخ أسس السلام.
ويشكل الحوار والتفاوض القوتين الدافعتين نحو سياسة السلم والانفراج وردا على مخاوف مختلف الأطراف من اندلاع الصراعات. ونتيجة لهذه السياسة، أصبحت الإصلاحات الأساسية ممكنة داخل الدول وفي ما بينها. وهكذا، استفادت أوروبا بشكل مشترك من تكامل مواردها الطبيعية والتكنولوجية وفي مجال الطاقة، وطورت سياسة تعاون وفقا لذلك، واستثمرت في هياكل مشتركة تشمل شرق القارة وغربها. وتضمن هذه السياسة السلام والاستقرار.
◙ الاضطراب الذي يدمر السلام في الشرق الأوسط يجب ألا يتكرر في مسارح أخرى، سواء بإرادة بلد واحد أو من خلال تحالفات عسكرية
كما عزز صعود التعاون داخل أوروبا زخم العولمة، مما رفع التجارة بين الأسواق والفاعلين في جميع القارات. ومع ذلك، وفي الوقت نفسه، تتطور التوازنات الإستراتيجية وفقا للمنطق الوطني أو منطق التحالفات، دون ضمانات لسلام الدول وأمنها، سواء على المستوى الإقليمي أو العالمي.
إن مخاطر اختلال التوازنات، بسبب التطورات الداخلية وبسبب توسع التحالفات الجغرافية، من شأنها أن تقوّض أمن الدول. ويفرض الاهتمام المشروع بالحد من المخاطر والقضاء على التهديدات ضرورة تحديد شروط الأمن المشترك بين الدول المعنية والاتفاق على ضمانات الحل السلمي في حالة نشوب نزاع.
خلال الحرب الباردة، رأت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي تهديدات في المبادرات أحادية الجانب لنشر صواريخ هجومية في كوبا وتركيا. ونجحا في تجاوز الأزمة بفضل الالتزامات الأمنية المتبادلة. ومنذ ذلك الحين، ضاعفت سياسة تخفيف التوترات تدابير بناء الثقة والمعاهدات الإستراتيجية لضمان الأمن الإقليمي والعالمي. واليوم، وبنفس المنطق، تُمتحن حكمة الدول التي تتحمل مسؤولية حفظ السلم والأمن الدوليين.
في يناير 2022، قدّمت روسيا سلسلة من المقترحات إلى الدول الأعضاء في حلف الناتو للتفاوض على نظام أمني إقليمي مع ضمانات متبادلة. وانجر عن رفض العرض الروسي اندلاع الصراع، لكن هذا لا يعني نهاية منظومة الأمن الأوروبي. وتظل هذه المنظومة في رأينا، أساسا لعودة السلام في أوروبا وفي العالم. وتتعلق نفس المسألة بالسلام والأمن في آسيا.
وتبرز تهديدات للدول والشعوب من التطور العمودي للتسلح، وإعادة التجهيز الهائل للأقطاب العسكرية، والموارد السيبرانية، وتوسيع القواعد والتحالفات في شرق آسيا. وإذا لم تختل التوازنات الرئيسية في هذه المرحلة في شرق آسيا أو جنوبها، فإن التوازنات قد تم تقويضها في غرب آسيا، وكذلك في الشرق الأوسط. إن الرغبة في ضمان هيمنة إسرائيل على المنطقة بأسرها، واحتكارها للسلاح النووي، واحتلالها لأراضي الآخرين، تخلق في الشرق الأوسط اختلالا هيكليا وتعطي مبررا لدولها كي تكتسب مقومات الدفاع عن نفسها بأي ثمن.
◙ النزاع في أوكرانيا يبرز تناقضا في المواقف إذ يعتبر القتال فيها دفاعا على الشرف بحيث يتم تزويد هذا البلد بالسلاح في حين يبدو أن ذلك الحق تمت مصادرته للشعب الفلسطيني
وما لم يكن هناك نظام أمني إقليمي، وكنا حاولنا عبثا تعزيزه خلال عملية السلام التي انطلقت في أكتوبر 1991، فلن يكون هناك ما يوقف السباق نحو الهاوية. وتبقى الفوضى هي ثمن احتكار القوة وديناميات الهيمنة كنماذج للسياسة الإقليمية. فكيف نوقف هذا السباق؟
إن الاضطراب الذي يدمر السلام في الشرق الأوسط يجب ألا يتكرر في مسارح أخرى، سواء بإرادة بلد واحد أو من خلال تحالفات عسكرية. لقد شهدنا، على مر التاريخ، الكوارث المتأصلة في سياسات القوة، وبنفس القدر، بعد النظر الذي يضمن الأمن للجميع، دون تمييز.
وتستند خطة السلام العربية، التي رفضتها إسرائيل، إلى نفس المبدأ المتمثل في الحاجة إلى نظام أمن إقليمي. إن الضمانات الأساسية لروسيا، التي أوصى بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون معسكره تفتح آفاقا للسلام وتعكس بعد نظر وإن كان ذلك يقتصر على الرهانات الأوروبية.
خلاصة القول هي أن الصراع الأوكراني ينهي عصر الانتقال ما بعد الاتحاد السوفييتي. فشل هذا الانتقال، الذي استمر من يناير 1992 إلى فبراير 2022، في تشكيل توازن إستراتيجي مقبول. ويعبر الصراع الحالي، الذي يجمع جملة من القوى من جميع القارات، عن الحاجة إلى توازن جديد يستجيب لشواغل دول أوروبا والعالم.
ونخشى لذلك ظهور نظام ذي قطب أحادي يولد بحكم طبيعته سياسات القوة.
وتستند آمالنا أساسا إلى ثلاثة اعتبارات. أولها الالتزام بمبادئ ميثاق الأمم المتحدة. وثانيها إمكانية ظهور أوروبا قوية تكون ملتزمة قانونا وممارسة بكونية القيم. وثالثهما هو الاحترام المتساوي للشعوب ووضع حد لجميع الممارسات التمييزية. وتجسد هذه الآمال فكرة إنهاء الاستعمار والتوسع الإمبريالي.