الباحثة سميحة دعاس: الحروب الأهلية مستمرة في السودان

عرف العالم صراعات بسيطة بين القبائل، كما عرف صراعات معقدة أدت إلى حروب إقليمية وحتى عالمية، إضافة إلى الحروب الأهلية التي تعرف في غالب الأحيان بالدافع الإثني، والتي تتسم بطابع متفجر، مثل تلك التي نشبت في العديد من الدول الأفريقية التي تعاني كثيرا من عدم الاستقرار والانتفاضات لأسباب عرقية وسياسية وقبلية، تحركها التدخلات الأجنبية مما جعلها تصبح مسرحا للصراعات.
من بين هذه الدول الأفريقية السودان، الذي يعتبر من أهم الدول الغنية بالإمكانيات البشرية والطبيعية الهائلة، والذي أصبح من الدول التي تعاني الصراعات والحروب الأهلية، ونذكر الصراع في إقليم دارفور الذي يعد إحدى أبرز القضايا الأفريقية الدولية المعاصرة الأكثر تعقيدا.
والباحثة سميحة دعاس في دراستها "الصراعات والحروب الأهلية في السودان.. دارفور أنموذجا"، والتي نالت بها شهادة الماجستير في تخصص التاريخ المعاصر من جامعة محمد خيضر - بسكرة عام 2015، أضاءت جوانب مهمة من جغرافيا الصراع في السودان، وتوقفت عند ما جرى في دارفور بالتفصيل.
بداية توضح دعاس أن السودانيين ينقسمون إلى أكثر من 211 قبيلة تختلف أصولها العرقية بين العروبة والزنجية كما تختلف لغاتها ولهجاتها المحلية، وتنقسم تلك القبائل إلى قبائل منطقة البحر الأحمر وقبائل بني عامر التي تتكلم بلغاتها القديمة المشتقة من الحامية والسامية. كما نجد قبائل النوبة في شمال وادي النيل وهي تتكلم العربية المختلطة ببقايا اللغة النوبية، أما في وسط البلاد فهناك مجموعة من القبائل العربية كالكباش والكواهلة والجعليين والرشايدة، بينما يعج الجنوب بالقبائل الزنجية كالنوير والشيك والكاوك، بالإضافة إلى الدنكا أكبر القبائل الزنجية في البلاد.
من هنا يعد السودان بتكوينه الاجتماعي هذا أكثر البلاد العربية تفرقا في ثقافته السياسية، فهو الدولة العربية الوحيدة التي تنقسم فيها الهوية الثقافية والقومية بين العربية والأفريقية، بالإضافة إلى التقسيم البريطاني خلال فترة الحكم الاستعماري بين الشمال والجنوب.
وتؤكد دعاس أن أسباب الصراعات والحروب الأهلية في السودان متعددة ومتنوعة، وفقا لطبيعة الصراعات المتواجدة فيها، والأسباب التي أدت إلى نشوبها، فيبدو أن مستقبل التناحر والحروب السودانية لا يخرج عن واحد من السيناريوهات الثالثة: فإما التركيب القائم على معايير الانتماء الجغرافي بعيدا عن الهوية الدينية، أو التفكيك وتقسيم السودان إلى مجموعة من الكيانات ذات الارتباطات الإقليمية المختلفة، وإما إعادة التفكيك والتركيب معا، وقد مثلت إشكالية السلطة وتوزيع الثروة في السودان محور الصراعات والحروب الأهلية التي شهدها في الجنوب والغرب والشرق، فقد رفعت جماعات التمرد مطالب ملحة ضد سياسات التهميش والإقصاء التي تعرضت لها مجتمعاتها طيلة سنوات ما بعد الاستقلال.
وترى الكاتبة أن السودان لم يمتلك قبل الاستقلال تقاليد الدولة الوطنية المتجانسة، وإنما شهد تعددا وتنوعا في الثقافات والديانات والأعراق، حتى أنه استحق وصف مرآة أفريقيا. وفي ضوء التعددية الإثنية في السودان، يمثل من الناحية الطبيعية والعرقية والثقافية عالما أفريقيا مصغرا، سكانه من الأجناس والألوان، ويتبع ذلك التنوع في اللغات والتقاليد والمعتقدات، وبالتالي فهو مجتمع متنوع وليس له مطالب مشتركة.
هذا بالإضافة إلى العوامل الاقتصادية وتقسيم الثروة والموارد، ويتضح ذلك بجلاء من تطور مشروع قناة جونجلي الذي نظر إليه الجنوبيون على أنه سوف يحرمهم من مواردهم الطبيعية لصالح الشمال، واكتشاف النفط في الجنوب أضاف بعدا مهما لفهم الصراعات في السودان.
وتضيف دعاس "من مسببات الصراع في السودان يكمن البعد الخارجي ودوره في تأجيج الصراعات فيه، إذ لا يمكن إنكار دور الامتداد الإقليمي لبعض القبائل، فمثلا الرئيس التشادي إدريس ديبي وبعض وزرائه ينتمون إلى قبائل الزغاوة، ولقد كان أول قائد ميداني في الجيش التحريري بدارفور الذي أطلق شرارة التمرد الأول 2003، والسيد عبدالله ابكر أحد قادة الهجوم الناجح الذي انطلق من دارفور 1990، ليدفع بإدريس ديبي إلى سدة السلطة في تشاد، فيبقى المتغير الخارجي في دعم أطراف الصراع، والتدخل في تفاعلاته المختلفة وكذلك التحكم في آليات التسوية يشكل المتغيّر الأهم في الصراعات القائمة في السودان، لأن القوى الغربية تحاول دائما صياغة وتشكيل المنطقتين العربية والأفريقية بما يخدم مصالحها وأهدافها الاستعمارية”.
وتلفت إلى أن ظاهرة الحروب الأهلية مستمرة في الدولة وغيرها من البلدان الأفريقية، وهو دليل واضح على عدم فهم جميع أبعاد هذه الظاهرة، وثمة عدة ملاحظات أساسية تعد مقدمات ضرورية لفهم ظاهرة الصراعات والحروب الأهلية في دولة السودان: الأولى أنها تشهد وجود انقسامات منوعة، وتباينا ثقافيا واجتماعيا، وقد تملك هذه الجماعات هوية ذاتية تضعها في مرتبة أسمى من الانتماء إلى الهوية القومية، وهو ما يدعم قناعتها بالاستقلال والتمايز العرقي.
الثانية: أن هذه الانقسامات تتسم بالكثير من المستويات العالية من العنف والتسيس، كما هو الحال في جنوب السودان. الثالثة: أنه في ظل هذا التوتر العرقي عادة ما يتصاعد العداء بين مجموعتين إثنيتين على نحو مكثف، ويزداد الشك بينهما، بحيث تعتقد كل جماعة أنها مهددة من قبل الجماعة الأخرى، وتتوالى الأفعال العنيفة وردود الأفعال المضادة. الرابعة: وجود وعي اثني متزايد، سواء من حيث مداه أو ثقافته، ومن ثم فإن المناخ الاقتصادي والاجتماعي والسياسي المصاحب له سيتسم بالتوتر، وفي ظل هذه الظروف والأوضاع يكتسب العامل الاثني نوعا من الإشباع والتدعيم، ويورث الانتماء العرقي عبر الأجيال المتتالية، فالثغرة الإثنية تسيطر على العائلة وأجهزة الإعلام والحوارات الخاصة والعامة ومختلف الوسائط الإعلامية والاجتماعية.
◙ السودان لم يمتلك قبل الاستقلال تقاليد الدولة الوطنية المتجانسة وإنما شهد تعددا وتنوعا في الثقافات والديانات والأعراق حتى أنه استحق وصف مرآة أفريقيا
وترصد دعاس في مبحث مستقل داخل دراستها الصراعات والحروب الأهلية التي عرفها السودان، ومنها: أولا الصراع في جنوب السودان: يعد البريطانيون أول من سمى جنوب السودان وكان ذلك في عام 1921 بهدف إيجاد كيان مستقل لهم، تبلغ مساحة جنوب السودان حوالي 700 ألف كيلومتر مربع من مساحة السودان البالغة 2.5 مليون كيلومتر مربع تقريبا، أي ما يعادل 28 في المئة من المساحة الكلية للبلاد.
وللجنوب حدود تمتد إلى 2000 كيلومتر تقريبا، مع خمس دول هي إثيوبيا وكينيا وأوغندا والكونغو وأفريقيا الوسطى، ويعرف جنوب السودان بأنه الجزء الذي يمتد جنوبا حتى بحيرة ألبرت بأوغندا ويشتمل على ثلاث مديريات هي مديرية بحر الغزال والمديرية الاستوائية ومديرية أعالي النيل. وتشكل المراعي 40 في المئة من الجنوب السوداني، والأراضي الزراعية 30 في المئة بينما تشغل الغابات الطبيعية 23 في المئة والسطوح المائية 7 في المئة من جملة المساحة.
وتعتبر مشكلة الحرب الأهلية في جنوب السودان، والتي جاوزت أعوامها الثلاثين، من أهم التهديدات لأمن واستقرار هذا البلد، الذي يضم بين حدوده العملاقة العديد من الجماعات ذات الأصول العرقية المختلفة.
لقد بدأت الحرب الأهلية عام 1955 إثر تمرد بعض الجنوبيين بقيادة يوسف لاجو ولجوء الحكومة إلى قمع التمرد بقسوة، مما أدى إلى فرار تلك القوات إلى المرتفعات الجنوبية الفاصلة بين السودان عام 1956، وحاول ممثلو الجنوب في الجمعية التشريعية من خلال الحزب الليبرالي تمرير مشروع لتطبيق الحكم الذاتي في محافظات الجنوب، لكن المشروع واجه معارضة شديدة من الأحزاب.
وبعد إجراء الانتخابات التشريعية عام 1958 طالب نفس الحزب الليبيرالي أثناء مناقشة الدستور الجديد باتباع نظام حكم فيدرالي مع التهديد بالانفصال في حالة رفض مطلبه، وقد أدى ذلك إلى احتداد الخلاف وحل البرلمان وتجميد الحياة السياسية مما مهد الطريق أمام الانقلاب العسكري الأول في نوفمبر من نفس العام.
وبعد تولي إبراهيم عبود السلطة استمرت الأوضاع على توترها في الجنوب، ولجأ النظام إلى استخدام العنف مع المتمردين، مما أدى إلى استمرار القتال وتشريد الآلاف من سكان الجنوب ولجوئهم إلى أوغندا حيث تم تشكيل أول حزب سياسي يمثل المتمردين الجنوبيين، هو حزب الاتحاد الوطني الأفريقي السوداني الذي عرف باسم “سانو” عام 1962.
عند سقوط النظام العسكري في أكتوبر 1964 تمت أول محاولة جديدة للمصالحة الوطنية من خلال مؤتمر المائدة المستديرة في الخرطوم خلال مارس 1965، حضرته الأحزاب السياسية وقادة التمرد في الجنوب وبعض المراقبين من الدول الصديقة، مثل مصر وغانا وكينيا ونيجيريا وتنزانيا والجزائر. وتم فيه الاتفاق على عودة اللاجئين، وحرية الاعتقاد، وإقامة جامعة في الجنوب، وإقامة لجنة لدراسة الوضع المستقبلي.
وبظهور البترول في أرض السودان وخاصة في الجنوب، بدأ صراع مع الحكومة وثوار الجنوب، فالمواقع الجغرافية أصبحت عاملا جديدا للصراع على الحدود المشتركة بين الشمال والجنوب.
ثانيا الصراع في إقليم دارفور: إقليم دارفور يشكل خُمس مساحة السودان، وهو الإقليم الذي يعكس الصراع في السودان والذي يعود إلى أسباب يرجعها البعض إلى تقسيم مساحات الرعي والمناطق الزراعية من أجل الاستحواذ على هذه المناطق، لكن نجد أن الصراع عرقيا يقوم على أساس أن القبائل العربية تضطهد القبائل الأفريقية، وهذا يعود إلى الخلفية التاريخية التي زرعت فكرة أن سلالة القبائل العربية أنقى وأرقى من السلالة الأفريقية، ما أثر على الصراع في إقليم دارفور الذي تميز بالتنوع العرقي وكثرة القبائل.
◙ من مسببات الصراع في السودان يكمن البعد الخارجي ودوره في تأجيج الصراعات فيه، إذ لا يمكن إنكار دور الامتداد الإقليمي لبعض القبائل
كذلك مشكلة انتشار السلاح في الإقليم خاصة وأنه إقليم يقع على حدود دول عديدة كليبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى، مما أدى إلى تدفق السلاح إلى الإقليم لاسيما في ظل الصراعات الإقليمية، ففي أواخر السبعينات قامت ليبيا بتسليح القبائل الغربية في دارفور للاستقواء بها في صراعها مع التشاد إلى جانب تفكك جيش جمهورية أفريقيا الوسطى الذي دخل الكثير من أعضائه إلى إقليم دارفور. نتيجة لهذا الوضع كثرت العمليات الإجرامية، وبالتالي أصبحت حركة السلاح عادية في الإقليم.
وتتحمل النخبة السياسية والفكرية في السودان جانبا كبيرا من المسؤولية في الصراع، وذلك بتبني بعض النخب الإثنية المركزة، والتي تفضل نمطا ثقافيا من غير الأنماط الثقافية الأخرى، وعدم اتفاق هذه النخبة على طريقة أسلوب في التعايش مع الأنماط الثقافية السودانية، ووضع نمط واحد معترف به من قبل الجميع، مما أدى إلى تفاقم الصراع وانتشاره في دارفور منذ 1987 واشتدت شرارته في الإقليم في أوائل عام 2001 عندما اعتدى العرب على الزغاوة، وقتلوا حوالي 76 شخصا منهم، ومن ثم بدأت عمليات القتل والانتقام بين القبائل وضد الإدارة في الإقليم.
ورغم دخولها في مفاوضات مع المتمردين إلا أن الوضع زاد سوءا خاصة في ظل نقص المياه والموارد الغذائية، فأدى ذلك إلى سقوط العديد من القتلى وإحراق الكثير من القرى، ما دفع القوات العسكرية الحكومية إلى القيام بعمليات عسكرية ضد المتمردين، وما زاد سوء الوضع في إقليم دارفور هو التدخل الأجنبي والتحريض الإعلامي مما أدى إلى عقد العديد من المؤتمرات والاتفاق على العديد من الاتفاقيات من بينها اتفاقية أنجمينا.