الدراما كجسر بين السلطة المصرية والمواطنين

تستخدم السلطة المصرية وسائل متعددة لمد جسور الثقة بينها وبين المواطنين والحد من الانخفاض الحاصل فيها بسبب تصاعد حدة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية.
ظهرت الدراما كوسيلة مهمة في توعية الناس والتعبير عن أهداف النظام المصري وتوصيل رسائله، وتقريب المسافات بين الجانبين، وهي عملية يمكن أن يلعب الفن فيها دورا بعد أن أصبح من الأدوات الثقافية التي تعمل القاهرة على توظيفها.
يعرف الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي جيدا أهمية الإعلام والثقافة والفن في زيادة التوعية، وهو الذي يشكو دائما من انتشار الشائعات ويطالب دوما بمواجهتها وكشف الحقائق أمام الجمهور، ما يفرض تعظيم الاستفادة من الوسائل المختلفة ويحوّلها إلى مسألة ضرورية لمد جسور الثقة كواحدة من المهام التي تحملها السلطة على عاتقها حاليا.
◙ الدراما المصرية حققت نصف نجاح ونصف فشل حتى الآن، فكما أن هناك الكثير من المسلسلات التي أحرزت أهدافا عديدة في مرمى الخصوم توجد أعمال لم تحقق الغرض القريب منها.
خرجت الدراما عن إطارها الكلاسيكي في مصر مؤخرا، وتتبنّى سرديات متباينة لتجسيد الكثير من القضايا السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية التي يهتم بها الرئيس السيسي شخصيا ومحاولة معاونيه تقريبها إلى المشاهدين من خلال الحث على تقديمها في صور فنية جيدة لتؤدي رسالتها المطلوبة.
تناولت الدراما المصرية في الأعوام الماضية الكثير من الملفات التي تهم السلطة وشريحة كبيرة من المواطنين، وعكست بعض الأعمال أنماطا تعيش في الواقع المصري، وتعرضت إلى أشخاص لا زال بعضهم أحياء في السلطة وخارجها.
لعل الجزء الثالث من مسلسل “الاختيار” الأكثر وضوحا في تناوله الشامل لأحداث جرت في بر مصر، وكان الرئيس السيسي هو البطل الحقيقي في هذا العمل، وجسد دوره الفنان ياسر جلال، وبصرف النظر عن مدى النجاح الذي حققه والأهداف التي أحرزها فقد أكد المسلسل أن الدراما من أهم الأدوات في يد السلطة المصرية.
يريد النظام المصري تقديم روايته للأحداث، وإذا لم تكن الرواية موضوعية سوف تنقلب ضده، وهي الزاوية التي أثارت انقساما في عمل مثل “الاختيار”، لجأ إلى تكنيك اعتمد على فيديوهات وتسجيلات صوتية حدثت، إلا أن التشكيك فيها لم يتوقف.
قد تكون الجهة (جماعة الإخوان) التي شككت مفهومة دوافعها، لكن المهم أن تكون الأغلبية من المواطنين على يقين من أن ما قالته السلطة حدث بالفعل، لأنها الوسيلة التي تعيد بها بناء جدار الثقة مع جموع المصريين، إذ تبدو شريحة منهم غير متفهمة حتى الآن لأهمية الخطوات التي قام بها النظام المصري لإحداث نقلة تنموية سريعة.
أبدت الدراما اهتماما ببعض المشروعات، ظهرت في عدد من الأعمال من دون إتقان، حتى تحوّلت أحيانا إلى وسيلة دعائية أجهضت الجانب الإيجابي في رسالتها، بما أفضى إلى تأثير سلبي، فعندما تعكس الدراما واقعا لا يجب أن يصبح مثاليا تماما.
◙ العمل الدرامي الذي يحوي مضمونا سياسيا يتطلب معالجة فنية رشيدة، وتتوافر له الأبعاد التي تجعله عملا نوعيا يضيف رصيدا إلى أصحابه
كما أن الصورة النمطية الخاصة بضابط الشرطة أو الجيش أو الجندي على الحدود والتركيز على تضحياتهم والمجهود الذي يبذله هؤلاء فداء للوطن يقلل من تأثيرها.
من المهم أن يكون تقديم هذه الشخصية من دم ولحم، وتحمل إيجابيات وسلبيات ومشاكل وتعقيدات حياتية معروفة، وفي هذه الحالة سوف تجلب مردودات أكثر تأثيرا في الجمهور المتلقي، ما يحقق الأهداف التي تريدها السلطة المصرية أو غالبيتها.
تحاشي هذا الفخ يمثل مدخلا جيدا لزيادة مزايا الدراما، لأن تركيزها على تقديم صورة خالية من الشوائب يضفي عليها قدرا من القداسة التي تعد عنصرا ينزع عنها جانبا من الصفات الفنية المراد أن تهتم بها الدراما لتتمكن من توصيل رسالتها السياسية.
تفرض عملية مد جسور الثقة بين السلطة والمواطنين ألاّ تنقل الدراما صورة مغايرة للواقع، لأن روافد ذلك خطيرة، وتفقد الفن أهم ما يملكه من التأثير عندما يرتفع منسوب الصدق في القضايا التي يعالجها، خاصة عند مناقشة بعض المسلسلات موضوعات على جانب كبير من الحيوية ويعول عليها النظام في تعزيز رؤيته داخل المجتمع.
كلما خففت الأعمال جرعة الدعاية المباشرة ارتفع تأثيرها، وإذا تضمنت نوعا من الانتقادات في المجالات التي تتطرق لها زاد الاهتمام بها، لأنها إذا أعادت تكرار الطريقة التي تعمل بها وسائل الإعلام من زاوية المديح الدائم لكل كبيرة وصغيرة ستتكبد خسارة يصعب تعويضها، فالثقة إحساس معنوي لن يشعر به المواطنون ما لم تكن الأعمال الدرامية تتسم بالصفات البشرية، من حسن وقبح، وتفوق وتأخر.
يعد موسم رمضان المقبل تحديا جديدا للدراما المصرية وما إذا كانت تدور في فلك السنوات السابقة التي منحت القضايا الأمنية جزءا لافتا فيها.
والأهم عملية التناول التي يجب أن تكون محاكية للكثير من تفاصيل الواقع، بصورة يقبلها المشاهدون ويقتنعون أنها تخلو من تحويل الجندي لرامبو في الأفلام الأميركية.
ولأن الدراما سلاح له مفعول السحر في التأثير على وجدان الشعب المصري، قد تصبح خالية منه إذا تعمدت تسليط الأضواء على قضايا فرعية وقامت بتضخيمها أو جرى تقديمها بشكل يفتقر للأدبيات الفنية المتقنة، في القصة والسيناريو والحوار والإخراج والأداء التمثيلي، أي كل ما يتطلّبه العمل الدرامي المحترف من مهنية.
◙ الدراما المصرية تناولت في الأعوام الماضية الكثير من الملفات التي تهم السلطة وشريحة كبيرة من المواطنين، وعكست بعض الأعمال أنماطا تعيش في الواقع المصري
خلوّ العمل من الوصفة اللازمة للنجاح يخصم من رصيد الثقة، ويجعل القائمين على الدراما يبذلون جهدا مضاعفا ومركّبا، ففي هذه الحالة عليهم تغيير الصورة القديمة الناجمة عن انطباعات سلبية ثم خلق صورة جديدة تتناسب مع الواقع ومكوناته.
يمكن القول إن الدراما المصرية حققت نصف نجاح ونصف فشل حتى الآن، فكما أن هناك الكثير من المسلسلات التي أحرزت أهدافا عديدة في مرمى الخصوم توجد أعمال لم تحقق الغرض القريب منها، وعلى العكس حسبت ضد صناعها ومن وقفوا خلفها.
يتطلب العمل الدرامي الذي يحوي مضمونا سياسيا معالجة فنية رشيدة، وتتوافر له الأبعاد التي تجعله عملا نوعيا يضيف رصيدا إلى أصحابه، لأن الفشل هنا لن ينتهي عند حدود العرض وكفى، بل يستمر فترة طويلة وربما يترك مردودات قاتمة على بعض الأعمال المقبلة، وبالتالي تحيد عملية مد جسور الثقة عبر الدراما عن مسارها.
إذا كانت السلطات المصرية ارتضت أن تمنح الدراما صك البراءة وزعامة القوة الناعمة في المجتمع عليها أن توفر لها العوامل التي تساعدها على توصيل رسائلها الصحيحة والمتعددة، الأمر الذي يتطلب وجود مساحة كبيرة من حرية الإبداع، الذي يعد الأداة أو القاعدة التي تستطيع بها الدراما تحقيق الأهداف التي تريدها القاهرة في الداخل والخارج بعد أن امتلكت الدراما فعالية سياسية عابرة للحدود.