بوتين أمن العقاب في جورجيا والقرم فأساء الأدب في أوكرانيا

الحرب العدوانية التي بدأها فلاديمير بوتين على أوكرانيا في مثل هذه الأيام من العام الماضي لا تزال تحصد ضحاياها بلا توقف لذا فإنهاؤها على طاولة المفاوضات يعد مكافأة لمن بدأها.
الأربعاء 2023/03/08
رئيس أطلق العنان لأطماعه

مثَل جميل ومعبّر، ينطبق اليوم على الكثير من البشر، ومنهم دكتاتور روسيا فلاديمير بوتين، الذي وعلى مدى سنوات لم يجد من يتصدى له ويوقفه عند حده، ويلجمه ويكبح رعونته واستهتاره، فساق فيها، كما يقول إخواننا المصريون، وأطلق العنان لأطماعه، لأنه يعلم جيدا بأن لا أحد سيحاسبه، أو حتى يقف في وجهه، فكان منه ما كان!

كانت البداية في الشيشان، التي خدمه في حالتها تطرف التيارات التي كانت تحارب فيها، والتي كان أعضاؤها يتبنون أيديولوجية دينية متطرفة، أعطت له أمام العالم مبررا لمواجهتهم بقوة، وانتهى الأمر بشراء ذممهم لأنهم أصلا مرتزقة، بدليل أنهم يحاربون اليوم معه ضد الأوكرانيين، كما فعلوا في القرم، بل هم أشد بأسا عليهم من القوات الروسية، باعترافهم وبشهادة الأوكران! بعد الشيشان هاجم جورجيا، وتحديدا أوسيتيا الجنوبية، لنفس الحجة التي يسوقها اليوم ضد أوكرانيا، وهي أنها تضم مواطنين من أصول روسية تضطهدهم جورجيا، جاء لحمايتهم والدفاع عن حقوقهم!

هنا كان يفترض بالغرب التدخل، وعدم السماح له بتحقيق أهدافه وإكمال تمثيليته التي يسعى لتكرارها اليوم في أوكرانيا، آملا في أن تنجح كما نجحت أمس في جورجيا، وهي اقتطاع أوسيتيا منها وإعلان استقلالها عنها كدولة شكلية من قبل أتباعه الجورجيين، تدين له بالولاء ولا يعترف بها سواه. لكن للأسف سكت الغرب، ورأى أن ما حدث لا يستحق الصدام معه، وتغاضى عن الأمر. ليعود ويكررها بشكل أشد وأخطر في القرم، وكلنا نعرف ماذا حدث حينها، وكيف أن دول الغرب، وأولها ألمانيا، لفلفت الأمر وبادرت عبر مستشارتها السابقة أنجيلا ميركل، التي اعتمدت سياسة تهادن بوتين وترضخ لنزواته، بتنظيم وساطة جمعت رئيسي البلدين، وتم الاتفاق على بنود لم يلتزم بها بوتين، وبدأ بخرقها بعد فترة واحدا تلو الآخر.

◙ الكثيرون يأملون أن تكون هذه المرّة هي الأخيرة، عبر عدم السماح بظهور زعماء على شاكلة بوتين في الدول الأوروبية مستقبلا، والتعامل معهم سريعا في حال وصولهم إلى السلطة

لو كان الغرب قد وقف منه موقفا موحدا وحازما حينما غزا جورجيا أو القرم، كما هو اليوم، لما تجرأ على تكرار فعلته في أوكرانيا. لكنه أمن عقاب الغرب فتعلم أن يسيء الأدب كما ومتى ما يحلو له، لأنه أساسا قليل الأدب، على المرء أن ينتظر من أمثاله كل وأي شيء إن لم يضع لهم حدودا وعقوبات تمنعهم، أو على الأقل تدفعهم إلى التفكير ألف مرة قبل أن يسيئوا الأدب، لأنهم يعلمون بأن هنالك ما ينتظرهم. لكن الغرب، وبسذاجته المعهودة، لم يفكر بهذه الطريقة، وتماهى مع بوتين، بل وأبرمت أوروبا معه أكبر صفقة طاقة في القرن الحادي والعشرين حتى الآن، لتزويد دولها بأكثر من 60 في المئة من حاجتها إلى الطاقة.

كانت خطوة بمنتهى الغباء من ناحيتين. فمن ناحية كانت تبدو كمكافأة، حتى لو لم تكن كذلك، بدلا من استغلالها حينها للضغط عليه ومساومته للانسحاب من أوسيتيا والقرم، مقابل تمرير الصفقة! ومن ناحية ثانية جعلت اقتصاد دولها وبناها التحتية رهينة لأهواء حاكم توسّعي نزق مهووس بعقد الماضي. وها هي تدفع اليوم ثمنا باهظا لهذا القرار الغبي، رغم أنها كانت ستدفع ثمنا أقل بكثير لو بادرت بمواجهة بوتين وإيقافه عند حدّه مبكّرا.

الحرب العدوانية التي بدأها بوتين على أوكرانيا في مثل هذه الأيام من العام الماضي لا تزال تحصد ضحاياها بلا توقف، لذا فإنهاؤها على طاولة المفاوضات يعد مكافأة لمن بدأها. بوتين مجرم حرب، ويجب النظر إليه والتعامل معه على هذا الأساس، وليس التحدث إليه والجلوس معه على طاولة مفاوضات، كي يتعلم الدرس ويكون بدوره درسا مستقبليا لكل من تسوّل له نفسه القيام بنفس ما قام به، ولو في الحلم، خصوصا وأن جيشه يتراجع ويتكبد خسائر فادحة في ساحة المعركة، التي على ما يبدو، لم يعد حسمها عسكريا لصالح أوكرانيا بالأمر المستحيل.

منذ بداية الصراع وحتى اليوم غيّرت روسيا أهدافها الحربية، من التوسّع في كل أوكرانيا، إلى التركيز على شرقها فقط، في مقابل استعادة الجيش الأوكراني لزمام المبادرة في الكثير من الجبهات وبضمنها دونباس، على الرغم من إعلان بوتين للتعبئة الجزئية الإضافية لجنود الاحتياط، الذين يفرّون يوميا، ليس فقط من ساحات القتال، بل من كل روسيا! لذا قد يكون وقف إطلاق النار لصالح أوكرانيا ممكنا بحلول نهاية هذا العام، وربما قبلها، إذا سارت الأمور على المنوال الذي هي عليه اليوم، مع الحفاظ والإصرار من قبل أوكرانيا والغرب على مطلب وهدف استعادة الأراضي الأوكرانية المحتلة كاملة دون أن تنقص شبرا، لأن أي تنازل من قبلهما سيعتبره بوتين مكسبا ومكافأة، ونصرا يعزز نظامه ويشجعه على تكرار هذه الأفعال.

◙ كان يفترض بالغرب التدخل، وعدم السماح له بتحقيق أهدافه وإكمال تمثيليته التي يسعى لتكرارها اليوم في أوكرانيا، آملا في أن تنجح كما نجحت أمس في جورجيا

لقد بات واضحا لأوروبا وأميركا، بل ولجميع دول العالم الديمقراطي المتحضّر، أن السماح لبوتين بتحقيق أهدافه في أوكرانيا، سيغريه ويجعل لعابه يسيل لتكرار السيناريو مستقبلا، والتوسع على حساب دول أخرى في أوروبا، وهو ما لن تجازف أوروبا وأميركا بالسماح بحدوثه، وتكرار تجربة هتلر المريرة التي دمّرت أوروبا، وكلفتها الملايين من الضحايا، وخرجت منها بدروس ثمينة، حوّلت بلدانها إلى واحات للتآخي والسلام، يسعى أمثال بوتين لتعكير صفوها وتحويلها إلى ساحات لحروب عبثية هجرتها منذ عقود، ولم تكن تنوي العودة إليها كما حدث مؤخرا، لولا أن بوتين جرّها إليها جرّا.

يأمل الكثيرون أن تكون هذه المرّة هي الأخيرة، عبر عدم السماح بظهور زعماء على شاكلة بوتين في الدول الأوروبية مستقبلا، والتعامل معهم سريعا في حال وصولهم إلى السلطة، وليس التهاون والتراخي معهم، كما حدث مع بوتين. هذا الأمر يمكن تحقيق جزء كبير منه عبر تنفيذ مشروع إعادة بناء فكري واقتصادي وسياسي بعد تنحية بوتين، على شاكلة مشروع مارشال في ألمانيا، كان يفترض تنفيذه بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، بدل ترك روسيا لمافيات الحزب الشيوعي التي كانت تحكمه، مشروع يستهدف العقل السياسي الروسي الذي جبل على فكرة التوسع والتفوق على جيرانه، لترويضه ودمقرطته ومنعه من إفراز ساسة مهووسين بأطماع توسعية لا تلتقي مع روح الديمقراطية الليبرالية التي تعتمدها الدول الأوروبية كدستور سياسة ومجتمع، وكأسلوب حكم وحياة.

متى ما تحوّلت روسيا إلى دولة بروح ديمقراطية حقيقية، يتشرّبها الأطفال منذ الصغر، ويمارسها الكبار في تعاملاتهم، ويطبقها الساسة في حكمهم، وليس فقط بآليات جامدة كصناديق الاقتراع، التي يتم استغلالها منذ عقدين من قبل بوتين كمكائن تدوير النفايات، لتبادل منصب الرئيس ورئيس الوزراء ككرة البينغ بونغ، بينه وبين تابعه المعتوه دميتري ميدفيديف، حينها فقط يمكن الاطمئنان إلى أن احتمالية نشوب حرب في أوروبا باتت بعيدة جدا لعقود قادمة.

9