التخطيط والعشوائية في أجندة الحكومة المصرية

يرى الكثير من المواطنين أن الطريقة التي تتعامل بها الحكومة المصرية مع الأزمة الاقتصادية وتوابعها تشي بأن لديها خطة لتجاوزها ما يجعلها تتصرف بدرجة عالية من الثقة والهدوء ومحاولة تجاهل ردود الأفعال السلبية حيالها، وتصمم على المضيّ في طريقها وهي غير عابئة بالصخب المتصاعد حولها.
بينما يرى آخرون أن أجندتها تبدو خالية من الحكمة ولا تملك خطة إستراتيجية واضحة وتتصرف بشكل عشوائي أو مثل مطفئ الحرائق الذي يقوم بإخماد النيران لمنع انفجار كبير، فتأتي بعض تحركاتها مرتبكة عند مواجهة التطورات المفاجئة.
بين التخطيط والعشوائية مسافة ملبدة بالغيوم أدت إلى اجتهادات متباينة، تارة ترجح كفة الأولى، وأخرى تميل نحو الثانية، لأن الحكومة نفسها لم تعلن عن مشروع محدد المعالم يمكن أن يذمه المواطنون إذا رأوا شيئا مخيفا أو يمتدحونه إذا شاهدوا شيئا إيجابيا، لكن لأن المصريين يميلون بطبعهم، مثل شعوب دول عديدة، إلى المعارضة والرفض والسخرية استقر في يقين غالبيتهم مفهوم “اللاخطة” وأحيانا “اللامنطق”.
◙ الطريقة الرمادية التي تدير بها الحكومة الكثير من المناحي الاقتصادية أفقدت النظام المصري جزءا كبيرا من الشعبية التي كان يحظى بها عند تولي الرئيس السيسي الحكم قبل حوالي تسعة أعوام
تتصرف الحكومة كأنها غير مهمومة بما يثار حولها من غبار أو واثقة في توجهاتها ولا يأتيها الباطل أبدا، وعندما تبدي تجاوبا غالبا ما يأتي ردها متأخرا ومرتبكا وبعد أن تختلط الحقائق بالشائعات ويصعب التفرقة بينهما، حيث منحت شبكات التواصل الاجتماعي فرصة لمروّجي الحقائق والشائعات للتشكيك في خطاب كليهما.
لم يخرج رئيس الدولة أو رئيس الحكومة للحديث عن خطة تقوم القيادة بتنفيذها لمواجهة التحديات، ويقول أحدهما أو كلاهما للناس هذا بالضبط ما نواجهه، وهذا ما سوف يحدث لاحقا، وعليكم أن تتحملوا معنا الأوقات العصيبة وندفع جميعا الضريبة.
في المرات القليلة التي عرّج فيها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي على هذه المسألة كان خطابه منصبا على توجيه اللوم إلى المواطنين وتحميلهم ضمنيا استفحال الأزمة الاقتصادية وكأنهم شاركوا في التخطيط للمشروعات.
فهم الذين قاموا بثورة في يناير 2011 كبدت الدولة المليارات من الدولارات خسائر الفوضى التي أعقبتها، وتسببوا في هدم الكثير من أركان الدولة، وهم الذين ينجبون نسلا كثيرا فتلتهم الزيادة السكانية التحسن الاقتصادي، فضلا عن تحميل الحرب الروسية – الأوكرانية أكثر مما تحمل من تداعيات اقتصادية لإبراء ذمة الحكومة.
بكلام آخر على الشعب المصري أن يدفع ثمنا باهظا من دون أن يقوم رئيس الدولة أو الحكومة بشرح الخطة الحكيمة للناس، والتي تتكفل بمعالجة أوجه الخلل الذي أفضى إلى حدوث أزمة اقتصادية عاصفة، وهذا هو حجر الزاوية، فكل التصورات المقدمة تعالج نتوءات ومخارج أو تقترب على استحياء من الأسباب.
لا أحد ينكر أن هناك مشروعات قومية سطعت في ربوع مصر، ولا أحد ينكر أن الرئيس عبدالفتاح السيسي يعمل على تخفيف الأعباء عن طبقة الفقراء، لكن الكل يشاهد التخبط في بعض دواليب الدولة في منظومة الضرائب والإعفاءات والإفراجات الجمركية والنظام المصرفي ومخالفات البناء ومكافحة الفساد، وغيرها، وهو ما يثير الهواجس ويدحض وجود منظومة أو خطة تسير على هديها الحكومة ويعزز سيناريو العشوائية على حساب الخطة الإستراتيجية.
من يتابعون الثقة التي تتصرف بها الحكومة بشأن موقفها من التقشف وإصرارها على المضي قدما في الكثير من المشروعات القومية يشعرون أن هناك خطة “خفية” تعمل من خلالها ولا تريد الكشف عن تفاصيلها، خاصة أن وسائل الإعلام التابعة لها تكيل المديح لتصوراتها وتشكّك الناس في رؤيتهم لتعاظم الأزمة الاقتصادية.
كما أن الإصرار على إحداث تعديل في التوجهات الاقتصادية والاستعانة بخبراء معروفين، يؤكد أن الحكومة تعرف ماذا تفعل وتعمل على معالجة الخلل تدريجيا ووفقا لرؤية هي وحدها تعلم تفاصيلها ولا تريد أن تبوح بها لأحد خوفا من شيء ما مجهول، وسوف يصدم الناس بما سيرونه في المستقبل من إنجازات تتحقق على الأرض.
يقول البعض من الخبثاء إن الخطة تكمن في عدم وجود خطة، وهي الطريقة الوحيدة التي تفسر الارتباك في تصورات الحكومة مع اشتداد الأزمة والبحث عن سبل لوقف النزيف الحاصل في القطاع الاقتصادي، لأن الخطط ليست سرا حربيا، بل هي وسيلة لطمأنة الناس وضمان الحصول على تأييدهم، طالما أنها تتحلى بالعلم وتعتمد على الدراسات الجيدة، ويمكنها أن تقضي على جوانب كبيرة مما يتردد من شكوك حول جدوى المشروعات القومية العملاقة وجدول الأولويات العامة.
◙ الحكومة تتصرف كأنها غير مهمومة بما يثار حولها من غبار أو واثقة في توجهاتها ولا يأتيها الباطل أبدا، وعندما تبدي تجاوبا غالبا ما يأتي ردها متأخرا ومرتبكا
ليس المقصود بالخطة التعامل اليومي مع المشكلات وبالقطعة، فالأزمة ممتدة ويمكن أن تستمر لسنوات على هذا المنوال، وهناك حاجة عاجلة لسد الأفواه المفتوحة، وقروض وفوائد واستحقاقات لها آجال محددة من الضروري أن تعلن الحكومة عن كيفية التعامل معها، فإذا كانت تعوّل على اكتشافات نفطية أو غازية أو تملك كنزا لا تريد الإعلان عنه، على الأقل تقدم بشارات ملموسة بأن القادم سوف يصبح أفضل، بدلا من أن يترك الناس العنان لخيالهم ويذهب إلى كل ما هو سلبي.
أفقدت الطريقة الرمادية التي تدير بها الحكومة الكثير من المناحي الاقتصادية النظام المصري جزءا كبيرا من الشعبية التي كان يحظى بها عند تولي الرئيس السيسي الحكم قبل حوالي تسعة أعوام، فالأزمة الطاحنة التي انعكست على حياة شريحة كبيرة من الناس قضت على الكثير من الأحلام التي راودتهم مع وصوله إلى السلطة.
وما لم يتم تقديم كشف واقعي واضح بما حدث ولماذا وتحديد آليات عملية للعلاج سوف تتواصل الشكوك، وتتعمق ملامحها في المدى المنظور بما يصعّب تبديدها.
باتت سياسة الغموض هدامة، وتؤثر سلبا على العديد من التطورات الإيجابية التي تحققت فعلا على الأرض، فالمصريون في أشد الحاجة إلى مكاشفة من قبل الرئيس السيسي حول الأزمة كي يتمكن من استرجاع تأييدهم لمواجهة ما هو أكثر صعوبة.
تحدثت تقارير دولية مختلفة عن عام قاتم يعيشه العالم الآن، ومصر تقع في الجزء الغاطس منه، والذي سيواجه صعوبات أشد من غيره، ما يستوجب وضع النقاط على الحروف بلا مواربة أو تفسيرات مطاطة أو قذف الكرة في ملعب الشعب وحده.
كل تصاعد في حدة الأزمة الاقتصادية قد يكون مبررا لإقالة الحكومة المصرية أو تعديلها، لكنه قد لا يكفي لتبديد مخاوف الناس واستعادة ثقتهم مرة أخرى، فالمواطنون يعرفون فقط رئيس الدولة ودائما ما يحمّلونه كل كبيرة أو صغيرة، إيجابا أو سلبا.
يحمل التداخل الظاهر في التخطيط والعشوائية بأجندة الحكومة المصرية إلى المزيد من الأعباء، وينزع عن النظام المصري.