الذهب ملاذ آمن للمواطنين والمستثمرين بمصر في ظل التقلبات الاقتصادية

لم يجد المصريون من حل للحفاظ على قيمة مدخراتهم سوى اللجوء إلى تحويلها ذهبا سواء في شكل مصوغ أو سبائك. وفي ظل الأزمة الحالية التي تشهدها البلاد والمخاوف من تعويم جديد للجنيه أقبل الكثيرون على سوق الذهب ما أدى إلى ارتفاع غير مسبوق في أسعاره.
القاهرة - لم تكن الخطوة التي أقدم عليها المواطن المصري الأربعيني محمد جمال عندما قام بسحب أمواله التي أودعها في أحد البنوك الحكومية لتحويلها إلى سبائك وجنيهات من الذهب مستغربة لأسرته، إذ قام العديد من المواطنين بخطوات مماثلة واستثمار مدخراتهم في الذهب خوفا من التراجعات المستمرة في سعر الجنيه أمام العملات الأجنبية، ويقينا بأن هناك ملاذا أكثر أمنا للحفاظ على قيمة أموالهم.
اعتاد جمال، الذي يقطن في محافظة سوهاج (جنوب مصر) أن يصطحب زوجته لشراء المشغولات الذهبية كلما وجد أن سوق الذهب بدأ في الانخفاض، إيمانا بمقولة تنتشر كثيرا في الأوساط الريفية والأقاليم البعيدة عن العاصمة بأن “الذهب الأصفر ينفع (يفيد) في اليوم الأسود”، بمعنى أن الوقت سوف يحين للاستفادة من الاستثمار في الذهب والمعروف أنه طويل الأجل.
اختار الرجل هذه المرة الذهاب إلى محال بيع الذهب للشراء وهو في أقصى ارتفاعاته التاريخية، وهو على يقين بأنه إذا لم يغتنم الفرصة حاليا فسوف يواجه العديد من الخسائر في ظل الارتفاعات المستمرة في أسعار الذهب على مدار أكثر من شهر، وكان هدفه هذه المرة شراء سبائك كبيرة وجنيهات ذهبية في ظل انخفاض قيمة الضرائب المفروضة على صناعتها، عكس المشغولات الذهبية التي تتزين بها زوجته.
وتجاوز سعر غرام الذهب عيار 24، 1800 جنيهً (75 دولارا)، ووصل غرام الذهب 21 الأكثر شيوعاً في مصر إلى 1730 جنيهًا للغرام (70 دولارا).في أوقات الارتباك
أشار جمال في تصريح لـ”العرب” إلى أن والدته قامت ببيع مدخراتها من الذهب حينما أقدم على خطوة الزواج لمساعدته في شراء شبكته، وأنه يستهدف تكرار الأمر ذاته مع أبنائه الثلاثة عندما يكبرون، وخشي من انخفاض قيمة أمواله في البنك، على الرغم من أنه قام بإيداعها في إحدى المبادرات البنكية للحصول على فوائد مرتفعة في مقابل ودائع طويلة الأجل.
ولم يختلف الوضع كثيرا بالنسبة إلى عمرو محمد، الذي قرر أيضا شراء مشغولات ذهبية لزوجته بعد أن وجد أن عددا كبيرا من أقاربه قاموا بالأمر ذاته مؤخرا.
وذكر لـ”العرب” أنه في أوضاع الارتباك الاقتصادي تبقى هناك حاجة للحفاظ على الأموال كي لا يواجه خسائر مماثلة تعرض لها من قبل حينما أقدمت الحكومة المصرية على تعويم الجنيه لأول مرة في نوفمبر 2016، وفي ذلك الحين فقدت أمواله نصف قيمتها تقريبا، بينما تضاعفت أسعار الذهب.
وأشار المواطن المصري صاحب الـ(55 عاما) إلى أنه تأثر بالخطب الدينية التي تشكك في فوائد أموال البنوك وبدا حريصا على وضع مدخراته في قطاع العقارات أو الذهب، وأصبح الأخير أكثر أمنا وإن لم تكن له مكاسب مباشرة وسريعة على المدى القريب، لافتا إلى أن تباهي العائلات باكتناز الذهب يشكل دافعا للاتجاه نحو شرائه، خاصة مع وقف الحكومة البناء على الأراضي الزراعية.
وأكد عمرو، والذي يسكن بمركز “ميت غمر” التابع لمحافظة الدقهلية (شمال شرق القاهرة)، أن الاحتفاظ بالذهب تراث شعبي لا يمكن التخلي عنه بالنسبة إلى العديد من الأسر الميسورة.
وقذفت بعض الدوائر الإعلامية القريبة من الحكومة باقتراح لجس النبض، وتوجيه نصيحة للمواطنين بالاحتفاظ بما يكتنزونه من ذهب لدى البنوك المصرية، كمحاولة للحد من النهم الشديد لشراء الذهب، غير أن المقترح تلاشى مع تراجع ثقة الناس في المقترحات التي تصب في صالح الحكومة، وربما تكون هذه المحاولات العشوائية من بين الأسباب التي أدت إلى زيادة أسعار الذهب واحتكار بعض أباطرته من التجار.
وعاء استثماري
ارتفعت أسعار الذهب بشكل كبير في مصر، وبدا أن المتحكمين في السوق فقدوا السيطرة على تسعيرته أخيرا، ما دفع بعض التجار إلى التوقف قليلا عن حركة البيع.
وكشف مينا مفيد، وهو صاحب أحد محلات الذهب بمحافظة الجيزة، أن الإقبال على شراء السبائك والجنيهات الذهبية تضاعف بعد تراجع قيمة الجنيه، وأن المقبلين على الزواج الذين يقومون بشراء “الشبكة” خفضوا معدلات الوزن المعتادة وفي الأغلب لم تعد يتجاوز وزنها 20 غراما بعد أن كانت تصل إلى 80 غراما أو أكثر.
وقال لـ”العرب” إن الذهب أصبح وعاء استثماريا يتزايد الطلب عليه، ولم يعد رفاهية للمقبلين على الزواج أو الشباب في مقتبل حياتهم، ما يعد مؤشرا على أن الإقبال على شرائه سوف يأخذ في التزايد من المواطنين العاديين الساعين للحفاظ على مدخراتهم أو من جانب المستثمرين الذين يبحثون عن وعاء آمن يجنبهم خسائر محتملة بسبب انخفاض قيمة الجنيه، وبات من الطبيعي أن تشهد الأسعار ارتفاعا مستمرا عقب وقف استيراد سبائك الذهب من الخارج والاعتماد على المنتج المحلي.
ويخضع تحديد أسعار الذهب بشكل يومي في مصر لما يوفره تجار بيع الذهب “الكسر”، وهم وسطاء بين كبار التجار والمصنعين ومحال الذهب من كميات للمشغولات الذهبية والسبائك والجنيهات الذهبية، بجانب سعر غرام الذهب في مقابل الجنيه المصري في السوق السوداء الذي شهد ارتفاعا الأيام الماضية، ومدى الإقبال على الشراء في حال نقص المعروض اليومي، نهاية بالأسعار العالمية.
هناك نحو أربعة من التجار الكبار يتحكمون في توفير الذهب بالسوق أو احتكاره، وقاموا مؤخرا بتخزين أطنان عديدة
ويحدد تجار الذهب وأصحاب المحال سعر الدولار بـ35 جنيها عند شراء مشغولات أو سبائك، وقد يكون الرقم مبالغا فيه، لكن التجار في رأي مينا يخشون من تعرضهم للخسائر، ما يضطرهم لوضع أسعار تزيد عن القيمة الفعلية للجنيه في السوق السوداء.
ويتم تداول سعر الدولار في البنوك المصرية بنحو 24 جنيها و60 قرشا، ما يعد سببا رئيسيا في زيادة أسعار غرام الذهب عن قيمته العالمية.
وشهدت أسعار الذهب في السوق المصري ارتفاعات كبيرة مع تراجع أسعار أوقية الذهب عالميا، إذ سجل سعر الذهب العالمي للأوقية 1795 دولارا، منخفضا من أعلى قمة له عند 1809 دولارات في تداولات الاثنين، ومع ذلك استمرت الأسعار بمصر في الارتفاع.
وقال المتخصص في شؤون الذهب والمجوهرات وليد فاروق لـ”العرب” إن الأسعار المتداولة لسعر غرام الذهب في السوق المصري غير منطقية، ووصول الفارق بين الأسعار العالمية والمحلية إذا جرى حساب سعر الدولار بـ”24.60″ إلى 470 جنيها في الغرام الواحد يبرهن على وجود تلاعب في الأسواق من كبار التجار في ظل عدم وجود متحكم رسمي في أسعاره من الحكومة أو أي جهة رسمية.
وأوضح أن “تجار كسر الذهب” أو الذهب المستعمل الذين يطوفون على محال الذهب في المحافظات التي تشهد حالات بيع وشراء مستمرة ليقوموا بمقايضتها وبيعها للمصانع لإعادة تصنيعها ثم إعادتها إلى المحال في شكل مشغولات جديدة، هم من يتحكمون في أسعار الذهب بمصر.
أباطرة للذهب
علمت “العرب” أن هناك نحو أربعة من التجار الكبار يتحكمون في توفير الذهب بالسوق أو احتكاره، وفي الفترة الحالية التي شهد فيها الذهب ارتفاعا كبيرا في أسعاره لجأ هؤلاء إلى تخزين أطنان عديدة من دون إتاحتها في الأسواق انتظارا لتحقيق أكبر قدر من المكاسب، ما أدى إلى قلة المعروض، ومن ثم ارتفاع السعر مع زيادة الإقبال.
وأوضح فاروق أن توقف الاستيراد وعدم لجوء المواطنين إلى بيع مدخراتهم من الذهب، كما يحدث في الأوقات العادية من ضمن أسباب ارتفاع الأسعار، لكن ذلك لا يعد سببا كافيا للارتفاع الجنوني، فهناك اكتفاء من التصنيع المحلي بالداخل، ونسب الارتفاع مضطربة على مدار اليوم، ما يؤكد وجود تلاعب، فالأسعار قد تنخفض لعدة ساعات ثم تعاود الارتفاع مرة أخرى.
وبلغت مشتريات المصريين نحو 27.8 طن في التسعة أشهر الماضية، مقسمة إلى 24.7 طن من المشغولات الذهبية و3.1 طن من السبائك والجنيهات الذهبية.
وبلغت المشتريات فقط في الربع الثالث من العام الجاري (يوليو – سبتمبر) نحو 10.5 أطنان، وتشمل 9 أطنان من المشغولات و1.5 طن من السبائك والجنيهات.
42
في المئة نسبة ارتفاع طلب المصريين على المشغولات الذهبية العام الماضي
وارتفع طلب المصريين على المشغولات الذهبية العام الماضي بنسبة 42 في المئة ليسجل 27.9 طن مقارنة بـ19.7 طن في العام السابق عليه، بنسبة زيادة قدرها 39 في المئة، وفق مجلس الذهب العالمي، ما يعادل نحو 1.6 مليار دولار من دون احتساب قيمة المصنعية، وهي نسبة من المتوقع أن تتزايد مع نهاية العام الجاري.
وأكد فاروق لـ”العرب” أن الوضعية الراهنة بحاجة إلى رقابة قوية من جانب الحكومة على السوق السوداء وعمليات التسعير العشوائية، لأن الارتفاعات الحالية قد تكون قابلة للانخفاض في أي لحظة، وفي هذه الحالة سوف يخسر المواطنون مدخراتهم، كما أن الوضع بحاجة إلى رؤية واضحة من الحكومة تفضي لزيادة ثقة المواطنين في الحكومة بدلا من هرولتهم نحو اكتناز الذهب.
والذهب وعاء ادخاري لحفظ قيمة الأموال، لكن الإقبال عليه بدأ يتحول إلى وعاء استثماري في ظل ارتفاع أسعار العقارات واتجاه المواطنين إلى الحل الأسهل والأكثر تماشيا مع أوضاعهم نحو شراء الذهب بأي مبالغ موجودة لديهم.
ووجهت جهات حكومية عديدة نصائح للمواطنين بالتوقف عن شراء الذهب لحين استقرار أسعاره، وسط توقعات بأن يزيد حجم مبيعات المشغولات الذهبية لأكثر من 70 طنا العام المقبل.
غير أن النصائح لا يستجيب لها الكثيرون مع قيام البنك المركزي المصري نفسه بشراء 44 طنا من الذهب في فبراير الماضي، ما جعله يصنف كأكبر مشتر للمعدن الأصفر بين البنوك المركزية في العالم خلال الربع الأول من العام الجاري.