الفصل الأخير في مسرحية البشير

من يحكمون الآن هم من صحبة البشير ورفاقه الذين غيروا رأيهم فيه بعد ترهل حكمه ومنهم من يدينون بالولاء له ويرون أن الزمن لم يستطع أن يتخطى سلطته تماما حتى الآن.
الأربعاء 2022/12/28
لا شيء تغير للأفضل في السودان منذ سقوط نظام البشير

مضى نحو أربع سنوات على سقوط نظام الرئيس السابق عمر البشير ولا تزال غالبية القوى السودانية تبدأ وتنتهي أزماتها من عنده، فالرجل غادر القصر وزجّ به في السجن مبكرا، لكن الانشغال بأحواله يأبى أن يغادر البلاد، وأصبح رقما مهما في الحياة السياسية، ويصر عدد كبير من المؤثرين في المشهد العام على متابعة مسرحيته، والتي كلما أسدل الستار عن أحد فصولها جرى نسج فصل جديد لها.

حاول البشير في جلسة أخيرة لمحاكمته وضع نهاية بنفسه لهذه المسرحية عندما تحدث مباشرة عن مسؤوليته عن انقلاب الثلاثين من يونيو 1989 ليبرد نار المدنيين ويبرئ العسكريين، أو لأنه فقد الأمل في إطلاق سراحه ولو صحيا.

من يتغذون على مسرحية البشير ويقتاتون عليها يعملون على تجاوز هذا الاعتراف الذي كان كفيلا بطيّ الصفحة والتفرغ للتعامل مع الأزمة الراهنة والبحث عن حلول جادة لها، فعدد كبير من السودانيين يعتقدون أن الأحداث تبدأ وتنتهي عنده حتى الآن.

هناك جيل سوداني لا يهتم بما فعله القائد العسكري قبل أكثر من ثلاثة عقود، ولا يعنيهم إن كان مذنبا ومخطئا أو مظلوما وبريئا، فلماذا يطرب الكثيرون للتركيز عليه، ويصرّون على بقائه في الصورة وكلما حاول البعض تجاوزها جرهم آخرون إليه؟

◙ خلع عباءة البشير يتطلب من كل فريق تبني تصورات عملية تنهي على الفور استدعاء ملفه إلى الواجهة مع كل منحنى سياسي يدخله أصحابه أو صدام يخلط الأوراق

ما يهم هذا الجيل التطلع إلى المستقبل ورسم خارطة تنقذه من أزماته بدلا من الاستغراق في الماضي وتصفية الحسابات المشكوك فيها أصلا، فالطريقة التي عملت بها لجنة إزالة التمكين في البداية تم تخريبها، وبقيت هذه اللجنة معدومة الهوية.

حوّلت الشكوك المتزايدة بين المدنيين والعسكريين ورقة البشير إلى لعبة تثير الانقسام بدلا من تحويلها إلى أداة للإجماع الوطني، والتصميم على حصر الأزمة فيها يؤدي إلى اختزال الأزمة في الشكل والبعد عن المضمون الذي يستوجب إيجاد حلول عاجلة.

من يحكمون الآن هم من صحبة البشير ورفاقه الذين غيروا رأيهم فيه بعد ترهل حكمه، ومنهم من يدينون بالولاء له ويرون أن الزمن لم يستطع أن يتخطى سلطته تماما حتى الآن، والكثير من العناصر التي كانت مؤثرة في عهده تحافظ على نفوذها الواسع في دهاليز الحكم، ويسعى هؤلاء لإعادة الاعتبار إلى سلطته بطرق مختلفة.

وقد تمكن من يسمّون بالفلول من القبض على بعض هياكل الدولة وتضخموا فسيطروا على عدد من مفاصلها الحيوية بما أوحى أنهم دولة فوق الدولة ويصعب اجتثاثهم.

تؤكد دوائر سودانية عديدة أنه لا شيء تغير للأفضل في السودان منذ سقوط نظام البشير، فلم يتم التأسيس لدولة مدنية قابلة للحياة، ولم يتم التخلص من هيمنة المؤسسة العسكرية وتقويض أجنحتها المتغولة، وتجري إعادة إنتاج سياسات سابقة تشير إلى رغبة عارمة لعدم مبارحة الماضي، وكأنّ قدر السودان ألا ينظر إلى المستقبل.

المشكلة أن الأزمة تتواصل بلا حلول ناجعة، وكل الوعود والعهود التي تقطع تجد من ينقضها بعد أيام قليلة من توقيعها، ولذلك لن ينصلح حال السودان ويحدث التحول الحقيقي في ظل وجود ملهاة البشير، والصعود أو الهبوط الذي يلازمها.

مع إثارة موضوعات لا تقدم ولا تؤخر في الحراك السياسي من الصعوبة أن تصل الاتفاقيات التي تم عقدها بين القوى السودانية إلى بر الأمان أو تتمكن لجان الوساطة الإقليمية والدولية من التوصل إلى قناعة بأن التسوية السياسية ممكنة.

عدد كبير من الأطراف الفاعلة في البلاد لا يريد مبارحة الفترة الانتقالية، ويعمل هؤلاء على تمديدها بكل الحيل والألاعيب، ويجدون في ملف البشير وسيلة للتسلية ومدخلا يمكن من خلاله تخفيف وطأة الأزمات المتراكمة.

إذا اختفت هذه المسرحية سوف تكون القوى المدنية مطالبة بجردة حساب سياسية دقيقة ووقفة صريحة مع النفس، والقوى العسكرية عليها أن تتحمل مسؤوليتها حيال الإخفاقات التي حلّت بالبلاد بعد أن لاحت فرصة لتجديد دمائها.

تنشغل قوى خارجية أيضا بملف البشير في الحدود التي تمس مصالحها، وتجعلها مضطرة إلى استعادة مواقف أدت مناورات نظامه إلى إشكاليات إقليمية كادت تعصف ببعض الدول المجاورة وتشعل فيها صراعات ونزاعات مكلفة.

يتطلب خلع عباءة البشير من كل فريق تبني تصورات عملية تنهي على الفور استدعاء ملفه إلى الواجهة مع كل منحنى سياسي يدخله أصحابه أو صدام يخلط الأوراق، فقد يختفي هذا الملف بعد أسابيع أو شهور، غير أنه سوف يطفو على السطح عندما يجد الطرفان المدني والعسكري أو أحدهما غليانا في الشارع يتسبب في توجيه اللوم إليهما.

◙ البشير حاول في جلسة أخيرة لمحاكمته وضع نهاية بنفسه لهذه المسرحية عندما تحدث مباشرة عن مسؤوليته عن انقلاب الثلاثين من يونيو 1989 ليبرد نار المدنيين ويبرئ العسكريين

في مقدمة هذه التصورات ضرورة إغلاق الملف بإصدار أحكام نهائية في القضايا المنظورة عبر المحاكم المحلية أو الشروع في عملية تسليمه إلى المحكمة الجنائية الدولية وإخلاء المسؤولية، لأن المراوحة باتت جزءا من مسرحية مملة لا أحد يعرف نهايتها، حيث أصبح استمرار عرضها استجابة لحاجة مؤلفيها وليس جمهورها.

كما أن التسلية السياسية التي يمثلها البشير للمواطنين فقدت رونقها مع تراكم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية وصعوبة حلها، فسجن الرجل أو الإفراج عنه لا يمثل أهمية لشريحة كبيرة من الناس يواجهون معاناة يوميا لتدبير شؤونهم الحياتية.

في كل الدول العربية التي شهدت احتجاجات وتظاهرات وثورات لم يعد نظام الحكم السابق عقدة مستعصية على فك ألغازها، فمنهم من قتل أو رحل عن الدنيا، وحتى رجال الأنظمة البائدة لا يشكلون معضلة حقيقية أو يمثلون تهديدا للأنظمة التي ثارت عليهم سوى في السودان، فهو الوحيد الذي يصر على التمسك بالبشير وفلوله كورقة ضغط يتم التلويح بها وجذب الانتباه إليها بعيدا عن الأزمات التي تطوّق البلاد.

لن يصل السودان إلى الفصل الأخير في مسرحية البشير المملة إلا عن طريقين، الأول تجفيف المنابع التي تتغذى عليها هذه المسرحية العبثية عبر المحاسبة الصارمة لكل من أدمنوا توظيفها عندما تضيق عليهم الخيارات السياسية، والثاني التوصل إلى قناعة عامة بأن حكم البشير انتهى ولن يعود إلى الأضواء مرة أخرى، لا من خلال القيادات الراهنة في الجيش أو الأحزاب والقوى والحركات التي دارت في فلكه.

يحتاج الطريقان إلى عقد اجتماعي يحدد الملامح الرئيسية للمرحلة المقبلة ويكون خاليا من دمية البشير، وتتخلى القوى المدنية عن استخدامها كلما عجزت على إجبار القيادة العسكرية على الاستجابة لمطالبها، وتغلق الأخيرة المنافذ التي تفتحها أمام فلوله في الشارع كلما احتاجت إلى إرباك المشهد والتنصل من التزامات ضاغطة عليها.

9