السوداني يصنع نموذجا ناجحا للفشل في مكافحة الفساد

يحاول رئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني الظهور في صورة المسؤول النموذج في محاربة الفساد المستشري في العراق منذ سقوط نظام الرئيس الراحل صدام حسين في 2003، من خلال استعادة جزء بسيط جدا من “سرقة القرن”، وهو ما ينظر إليه مراقبون على أنه طريقة جيدة لطمس الحقيقة والتستر على الجهة المسؤولة عن السرقة.
بغداد – يفتخر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني بنجاح حكومته في استرداد مبلغ جديد من “سرقة القرن” يبلغ 134 مليارا و455 مليونا و600 ألف دينار عراقي، ومن غير المستبعد أن يعمد كما فعل مع المبلغ المسترد السابق، لإظهار رزم المال في عرض تلفزيوني آخر.
إلا أن إجمالي المبلغ المسترد الذي وصل، حتى الآن، الى 317 مليارا و535 مليونا و536 ألفا و525 دينارا، يكاد لا يساوي 1 بالمئة من المبلغ المسروق الذي بلغ 3 تريليون و700 مليار دينار عراقي (أو مايعادل ملياري و500 مليون دولار).
ويطلق على هذه السرقة وصف “سرقة القرن”، إلا أنها في الواقع سرقة لم تحصل في أي بلد على مدى التاريخ، وقد لا يحصل مثلها إلا في بلد مثل العراق ما بقيت تحكمه الميليشيات.
ويحاول السوداني أن يُظهر عزمه على مكافحة الفساد، إلا أنه على غرار كل الحكومات السابقة ليس في وارد الكشف عن الرؤوس الكبيرة التي تقف وراء أعمال الفساد، ما يجعل جهوده الاستعراضية تبدو وكأنها تحقق نجاحا، وإنما ضمن فشل أعمّ لا يشمل كل الذين يقفون وراء السرقات الكبرى.
وتشير تسريبات إلى أن التحقيقات التي أجرتها حكومة السوداني لم تحصر إلا ثمانية متهمين صغار نسبيا، ولم يلق القبض إلا على إثنين منهم. ولم يُكشف عن أي اعترافات.
وعلى الرغم من أن العملية تمت بمشاركة مجموعة من المتورطين الذين يعملون لصالح فاعلين أكبر منهم، بدلائل عملية نقل الأموال نفسها، إلا أن التحقيقات لم تتوصل إلى رسم خيوط الشبكة الكاملة للعملية، ولا إلى أين ذهبت الأموال. وفوق ذلك كله، فإن السوداني تعهد، برغم كل المساجلات القانونية، بضمان إطلاق سراح المتهمين في حال قرروا إعادة الأموال المسروقة.
ويذهب الاعتقاد إلى أن جزءا كبيرا من المال المسروق ذهب بشاحنات كبيرة إلى إيران، بينما ذهبت “الحصص” الأصغر أو “أجور” المرتكبين الصغار بشاحنات أصغر، إلى تركيا أو تم اخفاؤها في العراق. وهو ما يفسر الحجم الصغير للأموال المستردة، ذلك لأنها لا تعدو كونها تلك “الأجور”.
وعلى الرغم من أن رئيس هيئة النزاهة الاتحادية حيدر حنون أعلن عن أن “هناك أطرافا مهمة في الحكومة السابقة سهلت مهمة إخراج هذه الأموال إلى خارج العراق، وسيتم الإعلان عنهم قريباً”، إلا أن الشكوك ما تزال تحيط بجدية هذا الإعلان، لسببين على الأقل:
السبب الأول، لأن الإطاحة برؤوس كبيرة، تابعة لطرف، تؤدي إلى الإطاحة برؤوس كبيرة لأطراف أخرى. وثانيا، لأن الكشف عن البلد الذي وصلت إليه الأموال سوف يتطلب عملا حكوميا لاسترجاعها. وإيران ليست في وارد أن تُرجع أي مبلغ قد تعتبره “نصيبها” من عائدات العراق، مقابل الحماية التي تقدمها للميليشيات التابعة لها.
سرقة القرن ليست السرقة الأكبر، فالسجلات الحكومية بين عامي 2006 و2014 أظهرت اختفاء 400 مليار دولار
وتدور الشبهات حول عدة جهات. وبسبب الحجم الضخم للسرقة فإن طرفا واحدا ما كان من الممكن أن يقوم بها بمفرده.
وفي التاسع عشر نوفمبر الماضي قالت صحيفة “فايننشال تايمز” إنه “وفق 3 أشخاص على دراية بالقطاع المصرفي العراقي، فإنه من المؤكد أن البنك المركزي وبنك الرافدين على علم بالعملية، حيث أن الزيادة في الدولارات التي تم شراؤها في المزاد كانت أعلى من المعتاد، فضلا عن أن المبالغ المسحوبة كانت كبيرة جدًا، وأن كمية الأموال التي تُنقل يوميًا في بغداد كانت تتطلب شاحنات مدرعة، وهذا ما يشير إلى تورط الأجهزة الأمنية”.
وقال تحقيق وزارة المالية العراقية “إن الهيئة العامة للضرائب – دائرة الإيرادات الداخلية العراقية – دفعت بشكل احتيالي حوالي 3.7 تريليون دينار عراقي، أو ما يعادل نحو 2.5 مليار دولار لخمس شركات. وإن تلك المدفوعات سددت بواسطة 247 شيكا تم صرفها خلال الفترة من التاسع من سبتمبر 2021 والحادي عشر من أغسطس من العام الجاري، من فرع في مصرف الرافدين الذي تديره الدولة والموجود داخل الهيئة العامة للضرائب. وضم الحساب مليارات من الدولارات من ودائع الشركات التي كان من المفترض إعادتها إليها بمجرد خصم الضرائب”.
وقال القائم بأعمال وزير المالية آنذاك إحسان عبدالجبار الذي شغل أيضا منصب وزير النفط، إنه قام بالتدقيق وذلك بعد أن تلقى شكاوى من شركة نفط (أحد المودعين في صندوق الامانات) قالت إنها لم تتمكن من استعادة ودائعها الضريبية، وعندما استفسر الوزير عن الرصيد المتبقي في الحساب، قالت هيئة الضرائب إن به 2.5 مليار دولار، لكن مزيدا من التدقيق كشف أن الرصيد الفعلي تراجع إلى 100 مليون دولار فقط.
وكان الوزير الأسبق علي علاوي قد طلب أن يوافق مكتبه على أي سحوبات كبيرة، لكن كبار مدراء هيئة الضرائب تجاهلوا الطلب. واستقال علاوي في أغسطس “احتجاجا على الفساد والتدخل الأجنبي في الشؤون العراقية”، الأمر الذي يشير إلى أن مخطط السرقة معد مسبقا، وأن علاوي كان بمثابة حجر عثرة أمام تنفيذه. وفي ذلك ما يشير أيضا إلى أن أطرافا “عليا” هي التي كانت تعد للعملية، وذلك بدلالة أن السلطات قررت قبل عملية صرف الشيكات الأولى عزل “ديوان الرقابة المالية الاتحادي” من عملية الرقابة، وذلك بناء على طلب النائب هيثم الجبوري الذي كان يرأس حينها اللجنة المالية البرلمانية.
وتوصل التحقيق إلى أن الشركات التي تم تأسيس ثلاث منها قبل أسابيع فقط من سداد المدفوعات، قدمت مستندات مزورة لتتمكن من المطالبة بالدفعات. ولم يتمكن المدققون من متابعة الأموال لأنه تم سحبها نقدا.
وفي العادة فإن المطالب بسحوبات مالية تتطلب موافقة ثلاث إدارات على الأقل داخل هيئة الضرائب، بالإضافة إلى مدير ونائب مدير الإدارة المالية.
وتم نقل الأموال في شاحنات كبيرة بسبب حجمها الضخم، وتم تحويل جزء كبير منها إلى دولارات بشرائها من المصرف المركزي العراقي. وتم تحميل المبالغ الجديدة بشاحنات أقل عددا. ولم يُعرف إلى أين ذهبت، أو كيف تجاوزت نقاط التفتيش. وهو ما يشير إلى أن إدارة العملية كلها تمت من خلال مركز أشرف على كل الخطوات، ووفر كل الحماية والخدمات اللوجستية لنقل الأموال. ما يؤكد أن العملية لا تتعلق بموظفين في هيئة الضرائب فقط ولا في مصرف الرافدين، ولا بجهة حكومية واحدة، ولا بطرف برلماني واحد.
وقد ألقي القبض على نور زهير جاسم الخفاجي وهو رجل أعمال له صلات بمسؤولين نافذين نهاية أكتوبر في مطار بغداد. وكانت قد تمت تسميته رئيسا تنفيذيا لاثنتين من الشركات، وحصل على أكثر من مليار دولار من الحساب، وفق التدقيق. إلا أنه لم يعد إلا جزءا ضئيلا من ذلك المال. ولم تكشف حكومة السوداني إلى أين ذهبت بقية الأموال ولا عن الذين ساعدوا المتهم أو قاموا بتوجيهه. ومع ذلك فقد وجد السوداني أن من المناسب أن يظهر على شاشة التلفزيون وإلى جانبه الجزء الأول من “المبلغ المستعاد”، في عمل استعراضي غير مقنع، لأنه يتعلق بجزء محدود للغاية من المبلغ المسروق.
وأصدر القضاء حظر سفر بحق 9 مشتبه بهم، بينهم 5 موظفين في مصلحة الضرائب ووزارة المالية ومدراء شركات، ولكن الأسماء التي جرى تداولها في المسؤولية عن العملية شملت قادة أحزاب وميليشيات معروفين، ولم يتم استدعاؤهم للتحقيق.
وما لم يتم الكشف عن الجميع، فإن التحقيقات يمكن أن تأخذ أحد اتجاهين فقط: الأول، أن يتم دفن المسألة تدريجيا. والثاني، أن يتحول الأمر إلى تصفية حسابات بين الأطراف والميليشيات المتنازعة. وهو ما يؤكده ريناد منصور مدير مشروع مبادرة العراق في “تشاتام هاوس” بالقول “ينجح الفاسدون والأقوياء باستخدام سلطتهم لاستهداف الفئات الأضعف، غالبًا ما تُستخدم آليات مكافحة الفساد أداة للتصفية السياسية”.
ويقول الزميل المقيم بمركز القرن سجاد جياد إنه “من المتوقع أن تطير بعض الرؤوس من البنوك، وبعد ذلك ستُنسى القضية بهدوء، على الأرجح هذا ما تخطط له النخبة السياسية التي يبدو أنها عادت إلى ممارساتها القديمة وسالف عهدها”.
ومن قبل أن يتم الكشف عن تفاصيل وخطوط عملية السرقة، أعلن السوداني عقب إلقاء القبض على نور الخفاجي أنه تم التوصل إلى اتفاق تسوية يسمح بإبقائه مطلق السراح مقابل إعادة الأموال التي سرقها، وذلك لإتاحة الفرصة له لإعادة جمعها وبيع بعض ممتلكاته.
وقام الخفاجي بتسليم 123 مليون دولار، من أصل 1.1 مليار دولار. أي نحو عشر ما قام بسرقته، بينما لم يُعرف مصير المبلغ الرئيسي.
ويقول خبراء في القانون الجنائي إن إطلاق سراح المتهم بكفالة أمر ممكن وفق قانون أصول المحاكمات الجزائية، ولكنه مشروط بإعادة المبلغ المسروق. كما أن الكفالة لا تعني سقوط الإجراءات القانونية بحق المتهم، بل ستحال الدعوى إلى المحكمة المختصة وفق مادة الاتهام.
وفي إشارة إلى أن الأموال تم نقلها إلى دول أخرى، قال السوداني “إن معيار حسن العلاقة مع هذه الدول سيكون مدى تعاونها في استرداد اللصوص والمبالغ التي سرقوها”.
ولكن السؤال الذي يواجه السوداني هو: هل يستطيع أن يطالب باستعادة المبالغ المسروقة، لو أنها ذهبت إلى إيران؟ وهل يستطيع استخدام “معيار حسن العلاقة” لو أنها رفضت إعادة المبالغ أو تسليم اللصوص؟
الشبهات تدور حول عدة جهات. وبسبب الحجم الضخم للسرقة فإن طرفا واحدا ما كان من الممكن أن يقوم بها بمفرده
والجواب الذي يعرفه العراقيون يؤكد أنه لن يسترد شيئا، ولن يتمكن من التعامل مع إيران بأي معيار آخر. وقام السوداني بزيارة إلى إيران في نوفمبر الماضي ربما من أجل إيجاد تسوية تسمح بتسويف القضية، بعد الاكتفاء باستعادة أجزاء صغيرة من المبلغ من الشركاء الصغار في العملية.
ويقول مراقبون إن السوداني وضع نفسه في موقف حرج عندما استعرض جانبا صغيرا مما تمت استعادته. فصحيح أن منظر المبالغ كان يبدو هائلا، إلا أنه ليس سوى جزء ضئيل، واستعادته لا تعد إنجازا بطوليا.
وهذه العملية على ضخامتها، ليست هي عملية السرقة الأكبر في العراق، فالسجلات الحكومية بين عامي 2006 و2014 أظهرت اختفاء 400 مليار دولار تحت سلطة نوري المالكي، ما يجعل “سرقة القرن” مجرد قطرة في محيط هائل من اللصوصية المنظمة. وهذه الأموال “المختفية” لم يتم الكشف عن تفاصيلها وتم دفن القضية، إلى درجة أن الأطراف المتورطة بها عادت لتكون هي اللاعب الرئيسي في إدارة نظام “المحاصصات الطائفية”، الذي هو بدوره نظام قائم على تقاسم الموارد العامة لصالح الأحزاب المشاركة في “العملية السياسية”.
وفي يونيو الماضي، أي قبل اكتشاف “سرقة القرن”، كشفت هيئة النزاهة العراقية عما وصفته بـ”عملية اختلاس كبيرة” في مصارف حكومية، و”تزوير وتلاعب وغسيل أموال”، بقيمة ناهزت 700 مليون دولار من المال العام تورط فيها نحو 41 شخصاً من موظفين وزبائن وشركات وأفراد. وشملت العملية تلاعبا في القيود المصرفية، بحيث حصل اللصوص على “تعزيزات” و”أرصدة وهمية”.
وقائمة أعمال الفساد في العراق طويلة إلى درجة أنها تحتل المئات من الصفحات من المعلومات التي تم نشرها عنها. وهي من السعة بحيث أنها شملت وزراء ومدراء عامين ونوابا ومسؤولين في هيئة النزاهة نفسها. وبينما بقي “قادة” العملية السياسية يلعبون أدوارهم في إدارة “العملية” الأخرى، فإن العديد من هؤلاء المسؤولين وكبار الموظفين اختفوا عن الأنظار بما نجحوا في سرقته.
وحيث أن النظام نفسه هو نظام فساد، فإن أي محاولات استعراضية للظهور بمظهر القدرة على مكافحة الفساد سرعان ما ترتد لتثير مشاعر الإحباط نفسها التي قادت إلى بقاء العراق يتقلب على صفيح ساخن.