البحرين جسر العودة إلى ما صنعت قطر

الدوحة تتجاهل "جسر المحبة" وتلتزم الصمت أمام تعرّض البحرين لتهديدات طهران.
الاثنين 2022/12/05
مصالحة منقوصة

يعد "إعلان العلا" الذي أنهى المقاطعة الخليجية والمصرية لقطر أحد أهم أسباب نجاح المونديال إثر فتح الدول الخليجية سماواتها لحركة الطائرات من وإلى قطر، والتي لولاها لما نجحت الدوحة في استقطاب الملايين من الجماهير. غير أن قطر لا تبدي اهتماما بذلك وتواصل التعامل مع البحرين، إحدى دول المقاطعة، بالكثير من التباعد إذ ترفض كل إشارات التقارب، وهو ما يوحي بأن سلوك البلد لتعزيز عدم استقرار بعض الدول العربية لن ينتهي.

لندن -  صنعت قطر خلافات مع محيطها الإقليمي على أساس مشروعٍ كل تفاصيله وأدواته وأهدافه معروفةٌ. وقد وظّفت له عشرات المليارات من أجل أن يتحول إلى ركيزة لإقامة أنظمة جديدة، “ديمقراطية” في الظاهر، لكنها تعيد شعوب المنطقة إلى “مكوناتها الأصلية” في الباطن، أي إلى عشائر وطوائف متنازعة، ما يؤدي إلى إلغاء “الدولة” بمفهومها الذي أنتجته سنوات ما بعد الاستقلال، وإلى إلغاء “الشعب” بالمفهوم الذي يتطابق مع الكيان الطبيعي، الجغرافي والاجتماعي لكل بلد، فيتحول إلى “شعوب متصارعة”.

نموذجا هذا المشروع هما العراق وليبيا. الولايات المتحدة تكفلت بالتنفيذ في العراق، بموجب تصورات وضعها “المحافظون الجدد” في إدارة الرئيسين جورج بوش الأب وجورج بوش الابن، بينما تكفلت قطر بالتنفيذ في ليبيا، انطلاقا من تلك التصورات نفسها. وفي كلا هذين البلدين انهارت مؤسسة الدولة لتحل محلها مؤسسة ميليشيات، تعيش من عوائد أعمال النهب للموارد وصفقات الفساد، ولم يعد “الشعب” موجودا، إذ حلت محله طوائف ومناطق متنازعة.

مشروع صراع

"إعلان العلا" كان مجرد تنازل مؤقت، لكي يتاح لقطر أن تقطع المسافة إلى المونديال. فلا تعود ملزمة به بعد أن ينقضي

موّلت قطر امتدادات هذا المشروع ليشمل مصر وسوريا ودول الخليج. وأغدقت بالمال والسلاح على جماعات الإسلام السياسي، وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين، لكي تكون هي رأس الحربة و”أداة التغيير”.

كما وظّفت الإعلام ليكون بمثابة جهاز الحرب الدعائية الذي يبرّر هدم “دول الاستبداد” لإقامة “أنظمة ديمقراطية”، إنما على أساس هدم الهوية الوطنية واستبدالها بهويات فرعية دينية أو مذهبية أو عشائرية، ليتم التنازع على أساسها، ولكي تُبنى “الديمقراطية” فوق ما ينشأ عنها من تلال الخراب والجماجم.

وهذا ما حصل بالفعل في العراق وليبيا، وهو نفسه ما حصل في سوريا، حيث تحولت مطالب التغيير إلى حرب أهلية، والحرب الأهلية إلى حروب جماعات مسلحة، وهذه إلى عصابات، والبلد كله إلى جمهورية مخدرات وميليشيات، بما فيه مؤسساته الرسمية التي انحسرت من مؤسسة حزب إلى مؤسسة أسرة، فعصابة، ففرد لا يملك ليحكم إلا العنف والقسوة.

نجت مصر من هذا القدر المشؤوم بالتغيير الذي قاده الجنرال عبدالفتاح السيسي في يوليو 2013، مدعوما بانتفاضة شعبية اندلعت وتواصلت لنحو شهرين قبل ذلك، أيامَ أصبحت البلاد على حافة انهيار اقتصادي شامل، وأيامَ صار نحو عشرة ملايين قبطي مشروعا للذبح الحلال، وأيامَ أصبحت “الديمقراطية” التي روجت لها قطر “سُلّما نصعد به إلى السلطة ثم نركله”، على حد تعبير عصام العريان أحد أبرز قادة جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وأيامَ صار من الجائز أن يقول مرشد الإخوان مهدي عاكف “طز في مصر”.

البحرين ظلت تواجه التهديد الخارجي، حتى تغلبت عليه بمقدار واضح من الاستقرار
البحرين ظلت تواجه التهديد الخارجي، حتى تغلبت عليه بمقدار واضح من الاستقرار

خيوط هذا المشروع في السعودية كفلت أن تنسج نفوذا بين النخبة الدينية وفي وزارة التعليم، من خلال إدارة التوعية الإسلامية، والجمعيات الأهلية الخيرية وغيرها. وكانت الفكرة الأساس هي بناء إطار قاعدي عريض، يتذرع بأصولية مذهبية، إنما بهدف الانقلاب على أسرة آل سعود.

هذا المشروع بأدواته التحريضية كان هو السبب وراء قرار المقاطعة الذي اتخذته السعودية ومصر والإمارات والبحرين ضد قطر.

وكانت نقطة الضعف الخليجية -ولا تزال- أن قطر جزء من النسيج الخليجي، لا تستطيع الإضرار به دون أن تضر بالنسيج كله. ولئن تصرفت قطر كما يتصرف الابن العاق، بدوافع مراهقة سياسية، فزعم لنفسه أنه “يفكر”، فإن الدول الخليجية الأخرى ما كان بوسعها أن تؤذيه أو تصفعه على وجهه أو تقرص له أذنه، لأن كل ما تفعله يرتد عليها فيصبح ذكرى من ذكريات الأذى التي لا تمحى.

ويقول بعض علماء الاجتماع إن المجتمعات تكتسب من بيئتها أكثر مما تكتسب من نفسها أحيانا. والجِمال، وهي القطعان الأثيرة في البيئة الخليجية، لا تنسى الأذى ولا تغفر. فلم يبق من خيار إلا المقاطعة التي أعلنت في يونيو 2017. بمعنى أن تدير ظهرك لذلك الابن، فتتحاشى أذاه، دون أن تؤذيه.

وما ظل ثقيلا في هذه المقاطعة، على أي حال، هو إغلاق الممرات الجوية على الخطوط القطرية. فوظّفت قطر كل ما أتيح لها من أدوات لتوجيه الضغوط الخارجية إلى السعودية ومصر خاصة من أجل رفع قيود المقاطعة، حتى جاء إعلان العلا في يناير 2021 الذي أذن بإنهاء المقاطعة، ووقع عليه قادة وفود مجلس التعاون الخليجي في القمة الخليجية الحادية والأربعين التي انعقدت في مدينة العلا التابعة لمنطقة المدينة المنورة.

هذا الإعلان، الذي تضمن تسعة بنود، أعاد العلاقات بين دول المجلس إلى طبيعتها، وتضمنت مادته الأولى الدعوة إلى “تعزيز التكامل العسكري بين دول المجلس تحت إشراف مجلس الدفاع المشترك واللجنة العسكرية العليا والقيادة العسكرية الموحدة لمجلس التعاون، لمواجهة التحديات المستجدة، انطلاقاً من اتفاقية الدفاع المشترك، ومبدأ الأمن الجماعي لدول المجلس”.

وشرعت الإمارات منذ ذلك الوقت في بناء إستراتيجية “تصفير المشاكل” مع كل محيطها الإقليمي والدولي، بل وجعلت منها ركيزة لإستراتيجية الخمسين عاما الثانية من عمر دولة الاتحاد.

وطبّعت السعودية ومصر مع نفسيهما، بقبول المنعطف، أكثر مما طبعت قطر معهما. ولكن بقيت البحرين تجلس على مقعد الضغينة الذي أعدته الدوحة لها، وذلك بالرغم من كل الرسائل والمغازلات والدعوات التي قدمتها المنامة من أجل رأب الصدع واستئناف علاقات التعاون والأخوة والجيرة الحسنة.

علاقة الشراكة بين دول الخليج حق مشروع
علاقة الشراكة بين دول الخليج حق مشروع

ويوعز البعض المسألة إلى أن أربع طائرات حربية بحرينية اخترقت الأجواء القطرية ذات يوم من أيام الأزمة. فبقي الجملُ عاجزا عن النسيان. وأحد الاقتراحات المتاحة هو أن ترسل الدوحة عشر طائرات لتحلق فوق القصر الملكي في المنامة، لتنتهي القصة. غير أن “فكر” الضغينة لا يشفى بهذه الطريقة، رغم أنها يمكن أن تكون مؤشرا مرحا على أخوةٍ يمكن أن تعود واسعة الصدر.

إذا كانت هناك نقطة واحدة يلتف حولها “الأمن الخليجي” كله، فهي البحرين. وذلك نظرا إلى ما تتعرض له من تهديدات إيرانية. وقطر كجزء من منظومة الدفاع الخليجي المشترك يترتب عليها واجب الدفاع عن البحرين، لا الصمت عما تتعرض له من تهديد، وبالتأكيد ليس بزيادته سوءا عبر التحريض الإعلامي ضدها.

وعادت البحرين منذ “إعلان العلا” لتخاطب قطر بشأن البدء بتنفيذ مشروع “جسر المحبة” الذي بدأ التخطيط له منذ العام 1999، ليربط بين البلدين، فيكون ممرا للشراكة والتعاون الاقتصادي والمنافع المتبادلة.

ورفضت الدوحة التجاوب مع كل المخاطبات. بعض تلك المخاطبات تعرض للانتقادات لأنه بدا كأنه توسلات من أجل أن تفتح الدوحة الطريق لتنفيذ هذا المشروع الحيوي.

نعم، إنه مشروع يخدم الاقتصاد البحريني، لأنه الأكثر احتياجا إلى البدائل الاستثمارية. إلا أنه يخدم الشراكة الاقتصادية بين البلدين، كما أنه يخدم علاقات التعاون بين كل دول الخليج، لاسيما وأن الجسر يختصر المسافات بين الإمارات وقطر والسعودية، ويؤهل عُمان والكويت أيضا لكي ترتبطا بخط سكة حديد واحدة.

الخطط الهندسية جاهزة، وتحالف الشركات المعنية بالتنفيذ ينتظر منذ العام 2008 على الأقل، إلا أن الدوحة ظلت تؤْثر الإهمال والتجاهل.

دعم خليجي

Thumbnail

فازت قطر بحق استضافة مونديال 2022 في ديسمبر 2010. سوف يفهم المرء، على الفور، لماذا ظلت الضغوط تتصاعد من أجل إلغاء المقاطعة الخليجية المصرية في الثلث الأخير من الفترة الزمنية الفاصلة. فقطْع الخطوط الجوية والطرق على الدوحة -لو حدث- سيعني فشل المونديال وضياع الـ220 مليار دولار التي أُنفقت على منشآته.

ويمكن للنيات أن تكون ما تكون، ولكن “إعلان العلا” الذي أعاد تأسيس روابط الأخوة الخليجية كان يُفترض أن يؤخذ من ظاهره، وليس من أي نيات باطنية سواه.

ويظل الحرص على نجاح المونديال حقا مشروعا لقطر. ولكن، في الوقت نفسه، الحرص على علاقات الشراكة بين دول مجلس التعاون الخليجي حق مشروع أيضا. إنه حق أحق بكثير من الأول، لأن استقرار دول المجلس وأمنها وتماسك علاقاتها ومصالحها، فضلا عن تماسك نسيجها السياسي، أثمن بكثير من كل ما صرفته قطر لإنجاز مونديال ناجح.

الحرص على نجاح المونديال يظل حقا مشروعا لقطر. ولكن، في الوقت نفسه، الحرص على علاقات الشراكة بين دول مجلس التعاون الخليجي حق مشروع أيضا

وكان يمكن أن يكون “جسر المحبة” هو التعبير الأكثر صدقا عن سلامة النيات. لأنه سوف يوفر للبحرين، كما لقطر نفسها، مساحة جغرافية أوسع لاستضافة مئات الآلاف ممن يريدون الإقامة لمتابعة مباريات المونديال. إلا أنه بقي معطلا.

وحيث أن بناء الجسر كان يتطلب نحو أربع سنوات من العمل، فقد اتضح للمنامة، منذ العام 2018، أن “جسر المحبة” لن يقام، وأن البحرين سوف تجلس على مقاعد الضغينة القطرية حيالها، وأن أمنها سيظل مهددا، وأن التحريض ضد استقرارها لن يتوقف.

ماذا يعني ذلك؟ إنه يعني بكل بساطة أن “إعلان العلا” كان مجرد تنازل مؤقت، لكي يتاح لقطر أن تقطع المسافة إلى المونديال، فلا تعود ملزمة به بعد أن ينقضي. و”جسر المحبة” الذي بقي مقطوعا سيظل هو الشاهد.

الخليجيون طيبو القلب، لأنهم “ظاهريون” كنحو مليار مسلم آخر؛ أي أنهم يأخذون الأمور بظاهرها ويقبلون ما تقول، كما تقوله، بشرط ألا تنافق بأفعال ليست من جنس ما قلت.

و”إعلان العلا”، في مادتيْه الثانية والثالثة، قال:

  • "التأكيد على الأهداف السامية لمجلس التعاون، التي نص عليها النظام الأساسي، وأبرزها العمل كمجموعة اقتصادية وسياسية واحدة".
  • "التنفيذ الكامل لرؤية العاهل السعودي، الملك سلمان بن عبدالعزيز، التي أقرها المجلس الأعلى في دورته السادسة والثلاثين، في ديسمبر 2015، وفق جدول زمني محدد ومتابعة دقيقة، بما في ذلك استكمال مقومات الوحدة الاقتصادية والمنظومتين الدفاعية والأمنية المشتركة، وبلورة سياسية خارجية موحدة".

قطر لم تنجح في المونديال بمفردها بل بدعم خليجي
قطر لم تنجح في المونديال بمفردها بل بدعم خليجي

هاتان مادتان، في تطلعاتهما وقيمتهما الإستراتيجية، أكبر بكثير من عشرين مونديالًا.

وعملت الإمارات من بعد هذا الإعلان على إعادة النظر في كل خلاف ومدّ يد الصداقة والتعاون مع كل محيطها الإقليمي والدولي. أدخلت دبلوماسيتها في مُطهر شامل، لتخرج منه بنقاء الثوب الأبيض، الذي يريد عالما دون نزاعات ولا حروب ولا مشاكل، لكي لا يتلوث بها.

وانخرطت السعودية في جهد جبار من أجل أن تنفذ إستراتيجية للتطوير والاستثمار الاقتصادي يؤكد موقعها كقوة اقتصادية عالمية تتطلع إلى تبوّؤ مكانة بين أكبر عشر قوى في العالم.

أما مصر، بالرغم من كل ما بقيت تعانيه، فقد خرجت من حافة الهاوية. ومعاناتها الجديدة ليست معاناة فشل، بل معاناة توسع في مشاريع البناء والتطوير.

وظلت البحرين تواجه التهديد الخارجي، حتى تغلبت عليه بمقدار واضح من الاستقرار. وسمحت مشاريع التعاون والاستثمارات الخليجية، خاصة منها مشاريع السعودية، باستعادة القدرة على إحداث التوازن الاقتصادي.

ثم فازت قطر بإنجاز مونديال ناجح، أراد له محيطها الإقليمي أن يكون رائعا، وترفرف فيه الأعلام العربية، وترتفع فيه أهازيج الفرح، ويتكدس الزوار والضيوف الخليجيون بين أهلهم وإخوتهم.

إلا البحرين التي أُبقيت قسرا على الهامش. العاهل البحريني، الملك حمد بن عيسى آل خليفة لم يظهر في الافتتاح كما ظهر غيره من القادة العرب، لأنه كان يعرف أن “جسر المحبة” الذي أراد أن يُقيمه مع قطر ليس له مكان في قلوب ثبت أنها من حجر.

تلك القلوب إنما تزمع أن تعود لتبني جسرا مع ما صنعت من قبل، لأن سنوات المراهقة السياسية لم تنقضِ بعد، ولأن الابن مازال متمردا على أهله. يريد أن يؤذيهم، ويستمتع بضررهم، وهو يعرف أنهم عاجزون عن الإضرار به.

7