سعيد سعيود محافظ "فوق العادة" يفضح أزمة الخطاب السياسي للسلطة

الجزائر- تحوّل حضور محافظي المحافظات الجزائرية في شبكات التواصل الاجتماعي إلى موضة دعائية في الآونة الأخيرة، على أمل تسويق صورة معينة لدى مواطني تلك المحافظات ولدى أولياء النعمة، بغية نيل المزيد من الثقة.
غير أن ذلك الحضور انقلب على البعض منهم بمفعول عكسي، بسبب سوء إدارة الخطاب، فكثيرا ما عرّت جمل مقتضبة، أو تصريحات غير محسوبة العواقب، حقيقة هؤلاء المسؤولين المكلّفين بإدارة الشأن العام، كما حدث مع محافظ محافظة وهران سعيد سعيود خلال الأسابيع الأخيرة.
ترقيع الشرخ
استغل سعيود فرصة تكريم حفظة القرآن الكريم، للإعلان عن تخصيص 150 عمرة لفائدة المتوجين الأوائل في المسابقة، وهي خطوة تستهدف ترقيع الشرخ الذي تركه تصريحه السابق الذي وجّهه لمالك كشك عشوائي لبيع البيض المسلوق في إحدى ضواحي المدينة، بعد موجة الغضب الشعبي التي أثيرت ضده في شبكات التواصل الاجتماعي، ونعته بأوصاف العجرفة والغطرسة، واستغلال الوظيفة في التعالي على مواطن بسيط بدل بذل الجهد لخدمته.
ورغم أن المحافظ المذكور سارع إلى معالجة الخطأ بتخصيص محل تجاري في حي راق بالمدينة لفائدة مالك الكشك الذي خاطبه أمام وسائل الإعلام وكاميرات التصوير بالقول “احمل أغراضك وارحل”، كما قام المحيطون به باحتواء غضب المعني ودفعه لتسجيل تصريح يعلن فيه عن “جميل المحافظ في جبر خاطره”، إلا أن قيامه بالتوازي مع ذلك بمتابعة شاب تضامن مع صاحب الكشك وعاتب المحافظ على سلوكه أمام القضاء الذي حكم عليه بعامين سجنا نافذا، كرّس الوجه البشع لهذا المسؤول، فقد أكد بهذا السلوك نزعته الانتقامية من شاب بسيط، أما تسوية المسألة مع مالك الكشك فلم تكن إلا حيلة لاحتواء غضب الشارع وليس لتصليح زلة.
سلوك سعيود أثار موجة غضب واسعة في الشارع الجزائري، فهو على طابعه الاستفزازي والاستعلائي، عكس تغول رموز السلطة واجترار الخطاب الذي كان أحد أسباب انفجار انتفاضة فبراير 2019
المحافظ المذكور هو عينة من الموضة التي اجتاحت شبكات التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، كوسيلة للظهور أمام المواطنين، وأمام المسؤولين المركزيين الذين اقترحوهم أو عينوهم في تلك المناصب، خاصة وأن هؤلاء لم يعد بإمكانهم تبليغ رسائلهم عبر الإعلام الكلاسيكي الذي يعاني بدوره من الاضمحلال وفقدان المصداقية.
لسعيود وضعية خاصة، فهو إلى جانب كونه أحد المقربين من الرئيس عبدالمجيد تبون، يقود محافظة هي المدينة الثانية في البلاد من حيث الكثافة السكانية، وتمثل قطبا اقتصاديا وتجاريا وسياحيا كبيرا في غرب البلاد، ولذلك تتحرك فيها الكثير من المصالح ورؤوس الأموال والاستثمارات المحلية والأجنبية، فضلا عن الميناء الذي يعج بالحركة، الأمر الذي أكسبه نفوذا يفوق نفوذ الوزراء والمدراء المركزيين، وبات موقعه أكثر ثقلا من نظرائه المحافظين في المحافظات الأخرى وحتى من بعض أعضاء الحكومة.
وأثارت عبارة “احمل أغراضك وارحل“ التي تلفظ بها لمالك كشك البيض المسلوق، موجة غضب واسعة في الشارع الجزائري، فهي على طابعها الاستفزازي والاستعلائي، عكست تغول رموز السلطة واجترار نفس الخطاب الذي يكرس أزمة الثقة بين الطرفين، والذي كان أحد أسباب انفجار انتفاضة فبراير 2019، ورغم ذلك مازالت السلطة لا تعير أهمية لنوعية الخطاب الذي يردم الهوة من الذي يزيد في شساعتها ويعمق حالة الاحتقان.
وتردد في كواليس السلطة الجزائرية، أن الأزمة التي أحدثها محافظ محافظة وهران في الشارع، أرجأت تغييرا حكوميا كان الرئيس تبون على وشك الإعلان عنه خلال الأيام الأخيرة، وذلك لأن الرجل الذي كان مقترحا لشغل منصب في الحكومة الجديدة، أربك أوراق السلطة في آخر المطاف بتصريحه المثير للجدل.
ويبدو أن دوائر القرار في الرئاسة الجزائرية لا تريد المغامرة بوجه وزاري جديد فقد شعبيته وأثار أزمة، ولذلك أرجأت العملية لأيام أخرى من أجل ترتيب الأوراق، ورأت احتواء الموقف، ولو بسحبه من الواجهة رغم قربه.
وجاءت “هدية” العمرة التي تبرع بها، بغرض التغطية على زلة غير متوقعة، لكنها على ما يبدو لا يمكن أن تحجب أزمة الخطاب السياسي لدى قطاع عريض من مسؤولي وكوادر الدولة، وهو ما عبر الرئيس تبون نفسه عن معاناته منه، كونهم يساهمون بسلوكاتهم بتأليب الشارع ضد السلطة المركزية والإساءة إليها في عيون مواطنيها، حين قال ”هناك من يتجرأ ويستفز مراجعيه بالقول: راجع رئيسك ليحل لك مشكلتلك، وهذا أمر لن أتسامح معه“.
استغلال ضمانات تبون
لكن اعتراف الرجل الأول في الدولة بمثل تلك التركيبة البشرية التي تعمق أزمة الثقة بين الشارع والسلطة بتصرفاتها تجاه مواطنيها، لم تقابله إجراءات ميدانية لحد الآن، فغياب الحكومة عن الميدان وغيابه هو شخصيا عن مواطنيه منذ انتخابه في 2019، فسح المجال أمام تحوّل هؤلاء إلى حيتان، خاصة وأن الجهاز البيروقراطي وتبادل المصالح الضيقة يضمنان لهم الاستمرار في مواقعهم وتجاوز ما يتدرج من تقارير سلبية حول أدائهم.
ويبدو أن أمثال سعيود، يستغل تعبير الرئيس تبون، في أحد خطاباته عن دعمه لمحافظي الجمهورية ورفع القيود الإدارية والأمنية المضروبة عليهم في السابق، من أجل تحرير المبادرة العمومية في الميدان، في فرض منطق الدولة بتجاوزات واستفزازات تؤجج الغضب بدل أن تحل مشاكل السكان.
والطريقة الاستعراضية التي يظهر بها هؤلاء أمام مواطنيهم، تحجب حتى نواياهم الصادقة في إصلاح الأعطاب المحلية، في ظل غياب ثقافة اتصالية تجعل خطابهم يرجح كفة الحجة وتطبيق القانون والتكفل بانشغالات الناس، بدل استعراض سلطة التعسف والغطرسة.
ولعل ما فجر اللغط لدى الشارع، هو الطريقة والألفاظ الاستفزازية للمحافظ تجاه مواطن يظهر في حالة اجتماعية غير مريحة، الأمر الذي أثار موجة غضب شعبي ضد المسؤولين الذين يستغلون وظائفهم ومناصبهم في الاستعلاء على المواطنين والتعامل معهم بطريقة تثير الاستياء.
وبعيدا عن زلات اللسان التي تلفت انتباه المتابعين، فإن ظهور مسؤولين جزائريين خاصة على مستوى المحافظات في حالة استعراضية لبعث رسائل الولاء للسلطات المركزية، كثيرا ما زجّ بالبعض منهم في تصرفات وتصريحات تحولت إلى أزمات حقيقية ضاعفت العبء على كاهل من ولّاهم أمر الشأن العام هناك.
وكثيرا ما يكون استقواء هذا المسؤول أو ذاك بدوائر النفوذ في السلطة مبعثا لاستعراض القوة أمام المسؤولين الأقل منه منصبا أو أمام المواطنين البسطاء.
تقاليد العنف
يعتبر تصرف سعيود امتدادا لظاهرة غطرسة وهيمنة إدارية وسلطوية على الشأن العام في البلاد، فالسلوك والتصريح المشين والاستفزازي بات يطرح بجد مسألة تكوين الخطاب السياسي لدى الرصيد البشري للسلطة.
ولا يزال الشارع يتذكر التصريح المهين الذي وجهه الوزير والسياسي السابق عمارة بن يونس العام 2018 لخصوم الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة، عندما أراد أن يقدّم له خدمة في مشروع الولاية الرئاسية الخامسة، ويعرب له عن تقرّبه منه ولو بشتم الآخرين حين ختم مهرجانا شعبيا لحزبه بالقول ”لعنة الله على من لا يحبّنا“.
ونفس الشيء بالنسبة إلى سيد علي خالدي وزير الشباب والرياضة السابق في الحكومة الأولى للرئيس تبون، حين أراد الإشادة ببرنامج وسياسة السلطة الجديدة في البلاد، فقال ”من لم تعجبه الحال فليغيّر البلاد“، في رسالة منه لمعارضي السلطة ونخب الحراك الشعبي المناوئ لها.
وانتهى المطاف ببن يونس خلف القضبان، كونه كان يمثل أحد رموز المرحلة، بينما تم الاستغناء عن خدمات خالدي، ليتوارى عن الأنظار، فيما كوفئ آخرون بمناصب مريحة بعد نهاية مهامهم في الحكومة.
المسؤولون المركزيون الذين عينوا المحافظين في تلك المناصب، لم يعد بإمكانهم تبليغ رسائلهم عبر الإعلام الكلاسيكي الذي يعاني من الاضمحلال وفقدان المصداقية
محافظ وهران واحد من هؤلاء، فربحه لثقة السلطة المركزية حوّله إلى إمبراطور في ثاني أكبر محافظات الجمهورية، خاصة وأنه كان الرجل الأول في تظاهرة ألعاب البحر المتوسط خلال الصيف الماضي، والذي أوكلت إليه مهام التنظيم وتجهيز وبناء المرافق وتحضير المدينة لاحتضان التظاهرة التي راهنت عليها السلطة كثيرا ورصدت لها أكثر من مليار دولار.
لكن ذلك لم يحجب أخطاء المحافظ المتراكمة، وأبرزها بناء جدار عازل يفصل بين ضاحية عين الترك الساحلية عن الساحل من أجل الحد من ظاهرة الهجرة غير الشرعية، ثم تهديم الجدار دون تقديم حساب ولا حصيلة، فضلا عن أسلوبه الاستفزازي في التعاطي مع الشأن العام أو مع المسؤولين الأقل منه درجة.
الإهانة التي تعرض لها صاحب الكشك العشوائي في مدينة وهران، على يد الرجل الأول في المحافظة، أثارت تضامنا وتعاطفا شعبيين كبيرين في ربوع الجمهورية، حيث أعلن الناشط الاجتماعي “مستر أ – بي” عن تأجير محل في وسط المدينة لصاحب الكشك، بينما عبر شاب آخر من مدينة البليدة عن تكفله بتحضير جهازي تبريد للبضائع لاستغلالهما في المحل، فيما وجه ناشطون على شبكات التواصل الاجتماعي رسائل استهجان للمحافظ المذكور وللسلطة التي نصبته هناك.
ويبقى الخطاب السياسي لرجال السلطة يعيش أزمة حقيقية، تعكس طبيعة النظام القائم على الولاء وعرض الخدمات على حساب المهمة الحقيقية التي كلّف بها هؤلاء، لكن ذلك يجعل سيناريو بوتفليقة ورجاله غير بعيد. ويزيد من فضح عجز السلطة عن إنتاج رجال دولة قادرين على القيادة وترك التأثير الإيجابي لدى الجزائريين.